الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يهديك، وأن يطهر قلبك من العجب وسائر الأدواء.
والذي ينبغي أن تصرف همتك إليه: هو التوبة والاستغفار، والاستعانة بالله جل وعلا، ودعاؤه أن يطهر قلبك من العجب وأمراض القلوب كلها، وأن تجاهد نفسك في صيانة قلبك، وتنقيته من الأدناس بالإكثار من الطاعات -القلبية والبدنية-، ومراقبة النفس ومحاسبتها.
مع التنبه إلى خطر الغلو في محاسبة النفس، والمبالغة في التفتيش عن عيوبها، والتنقير عن آفاتها، فالشيطان قد يدخل على العبد من هذا المدخل حتى يصيبه بالقنوط واليأس، قال ابن القيم: وأما الاستقصاء في رؤية علل الخدمة فهو التفتيش عما يشوبها من حظوظ النفس، وتمييز حق الرب منها من حظ النفس، ولعل أكثرها أو كلها أن تكون حظا لنفسك وأنت لا تشعر.
فلا إله إلا الله، كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون لله خالصة، وأن تصل إليه؟ وإن العبد ليعمل العمل حيث لا يراه بشر البتة، وهو غير خالص لله، ويعمل العمل والعيون قد استدارت عليه نطاقا، وهو خالص لوجه الله، ولا يميز هذا إلا أهل البصائر وأطباء القلوب العالمون بأدوائها وعللها.
فبين العمل وبين القلب مسافة، وفي تلك المسافة قطاع تمنع وصول العمل إلى القلب، فيكون الرجل كثير العمل، وما وصل منه إلى قلبه محبة ولا خوف ولا رجاء، ولا زهد في الدنيا، ولا رغبة في الآخرة، ولا نور يفرق به بين أولياء الله وأعدائه، وبين الحق والباطل، ولا قوة في أمره، فلو وصل أثر الأعمال إلى قلبه لاستنار وأشرق، ورأى الحق والباطل، وميز بين أولياء الله وأعدائه، وأوجب له ذلك المزيد من الأحوال.
ثم بين القلب وبين الرب مسافة، وعليها قطاع تمنع وصول العمل إليه، من كبر وإعجاب وإدلال، ورؤية العمل، ونسيان المنة، وعلل خفية لو استقصى في طلبها لرأى العجب، ومن رحمة الله تعالى سترها على أكثر العمال، إذ لو رأوها وعاينوها لوقعوا فيما هو أشد منها، من اليأس والقنوط والاستحسار، وترك العمل، وخمود العزم، وفتور الهمة، ولهذا لما ظهرت " رعاية " أبي عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي، واشتغل بها العباد عطلت منهم مساجد كانوا يعمرونها بالعبادة. والطبيب الحاذق يعلم كيف يطبب النفوس، فلا يعمر قصرا ويهدم مصرا. اهـ.
وقال أيضا: وسألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن هذه المسألة، وقطع الآفات، والاشتغال بتنقية الطريق وتنظيفها؟
فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس - وهو جب القذر - كلما نبشته ظهر وخرج. ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه، وتعبره وتجوزه، فافعل، ولا تشتغل بنبشه. فإنك لن تصل إلى قراره. وكلما نبشت شيئا ظهر غيره.
فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ؟ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر. فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها، والاشتغال بقتلها: انقطع. ولم يمكنه السفر قط. ولكن لتكن همتك المسير، والإعراض عنها، وعدم الالتفات إليها. فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله. ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا. وأثنى على قائله .اهـ. من مدارج السالكين.
وأما التفاصيل التي تكلفت السؤال عنها بقولك (هل يمكن ..وهل يمكن) فليس في كثير منها كبير فائدة، لكن نقول:
العجب وغيره من الذنوب لا يشك مسلم في أن الله يغفرها لمن تاب منها، قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم {الزمر:53}، قال ابن تيمية: والله تعالى غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، والذنب وإن عظم، والكفر وإن غلظ وجسم، فإن التوبة تمحو ذلك كله، والله سبحانه لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب بل يغفر الشرك وغيره للتائبين؛ كما قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} وهذه الآية عامة مطلقة؛ لأنها للتائبين. اهـ. من مجموع الفتاوى.
والعجب لا يستلزم عدم التأسف على فوات الطاعة.
وأما قولك: (وكيف يمن المعجب بنفسه على الله ؟) فهو سؤال عن حقيقة العجب وقد بيناه في الفتوى: 32856.
وأما قولك: (وهل يمكن أن يجعلك الشيطان تشعر بشيء من الكبر والعجب رغما عنك): فجوابه في قوله تعالى -على لسان إبليس-: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي {إبراهيم:22}، قال الرازي في تفسيره: أما قوله: وما كان لي عليكم من سلطان، أي قدرة ومكنة وتسلط وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها، إلا أن دعوتكم، أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني .اهـ.
وقوله تعالى: وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك {سبأ:21}، قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصا ولا سيف ولا سوط، إلا أماني وغرورا دعاهم إليها. رواه ابن جرير.
وأما قولك: (وهل يمكن أن يبتليك الله بشيء من العجب والكبر ليختبر ...)
فإن المعاصي نوع من الابتلاء، لكنها ليست كالابتلاء بالمصائب -التي يكفر بها سيئات العبد-، فالمعصية في نفسها مكروهة لله، وهي شر للعبد، وليست خيرا له، لكن إن أعقبها بتوبة وإنابة صارت خيرا له من هذه الجهة، فالعبد إذا ابتلي بمعصية، ولم يتب منها كان معرضا للوعيد ومستحقا للعقوبة.
قال ابن تيمية: فالعبد المؤمن إذا تاب وبدل الله سيئاته حسنات، انقلب ما كان يضره من السيئات بسبب توبته حسنات ينفعه الله بها، فلم تبق الذنوب بعد التوبة مضرة له بل كانت توبته منها من أنفع الأمور له والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، فمن نسي القرآن ثم حفظه خير ممن حفظه الأول لم يضره النسيان، ومن مرض ثم صح وقوي لم يضره المرض العارض. والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه؛ ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع والخشوع لله والإنابة إليه وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة، كمن ذاق الجوع والعطش والمرض والفقر والخوف ثم ذاق الشبع والري والعافية والغنى والأمن فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته والرغبة فيه وشكر نعمة الله عليه والحذر أن يقع فيما حصل أولا ما لم يحصل بدون ذلك .اهـ. من مجموع الفتاوى.
وقال ابن تيمية: وأما الإنسان في نفسه فلا يحل له أن يفعل الذي يعلم أنه محرم لظنه أنه يعينه على طاعة الله، فإن هذا لا يكون إلا مفسدة أو مفسدته راجحة على مصلحته، وقد تنقلب تلك الطاعة مفسدة؛ فإن الشارع حكيم فلو علم أن في ذلك مصلحة لم يحرمه؛ لكن قد يفعل الإنسان المحرم ثم يتوب، وتكون مصلحته أنه يتوب منه ويحصل له بالتوبة خشوع ورقة وإنابة إلى الله تعالى؛ فإن الذنوب قد يكون فيها مصلحة مع التوبة منها، فإن الإنسان قد يحصل له بعدم الذنوب كبر وعجب وقسوة، فإذا وقع في ذنب أذله ذلك وكسر قلبه ولين قلبه بما يحصل له من التوبة. ولهذا قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويفعل السيئة فيدخل بها الجنة، وهذا هو الحكمة في ابتلاء من ابتلي بالذنوب من الأنبياء والصالحين، وأما بدون التوبة فلا يكون المحرم إلا مفسدته راجحة .اهـ.
وقال ابن القيم: فتقدير الذنب عليه إذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه؛ وإن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه، والرب تعالى محمود على الأمرين .اهـ. من طريق الهجرتين. وراجع الفتاوى: 321865، 265903، 263371، 243235 .
والله أعلم.