الدنيا ليست ميزانًا للتفاضل بين الناس عند الله

0 14

السؤال

أنا أعيش في مصر، وأحس بفتنة شديدة، تجعلني أشك في إيماني وتديني، فأنا أرى في أغلب الأحياء والمناطق الراقية من يركبون السيارات الفارهة، ويعيشون أفضل حياة، هم أكثر الناس بعدا عن الدين، فأغلبهم العلماني يشرب الخمور، ونساؤهم متبرجات عاريات، ولا يمثل الإسلام لهم غير كلمة في شهادة الميلاد؛ في حين أن المستوى الاجتماعي للمتدين والمحتشم في الطبقة المتوسطة، وأغلبهم فقراء، فما تفسير ذلك؟ وكيف ينصر الله فئة تفعل المنكرات، وتجاهر بالمعصية؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلتعلم أولا: أن المؤمن لا ينافس إلا على رضوان الله عنه، ولا يغبط إلا من هو أرضى لله منه، ولا يتحسر إلا على ما فاته من ذلك، وأما الدنيا، فهو ينظر إليها باعتبار: أنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، كما ثبت في الحديث الصحيح، ويجعل نصب عينيه دائما قول الله تعالى: وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون {العنكبوت:64}، قال ابن كثير في التفسير: يقول تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا، وزوالها، وانقضائها، وأنها لا دوام لها، وغاية ما فيها لهو ولعب: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} أي: الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها، ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد. وقوله: {لو كانوا يعلمون} أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى. فمن علم هذا، علم أن الدنيا ليست ميزانا للتفاضل بين الناس عند الله، وحصول زهرتها لا يدل على رضاه سبحانه، كما أن الحرمان منها لا يدل على سخطه عز وجل، فقد قال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن. كلا [الفجر: 15 - 17]

قال ابن كثير في تفسيره: {كلا} أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا، ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب، ومن لا يحب، ويضيق على من يحب، ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرا بأن يصبر. اهـ.

وقال السعدي في تفسيره: {كلا} أي: ليس كل من نعمته في الدنيا، فهو كريم علي، ولا كل من قدرت عليه رزقه، فهو مهان لدي، وإنما الغنى والفقر، والسعة والضيق: ابتلاء من الله، وامتحان يمتحن به العباد؛ ليرى من يقوم له بالشكر والصبر، فيثيبه على ذلك الثواب الجزيل، ممن ليس كذلك، فينقله إلى العذاب الوبيل. اهـ.

ولذلك كان لا بد من التفريق بين الاستدراج وبين الإكرام، فالمؤمن يبتلى بأنواع الشدائد؛ تمحيصا له، ورفعة لدرجته.

وأما إمهال العاصي، وزيادة الإنعام عليه رغم معاصيه، فإنما هو استدراج له، كما قال تعالى: فذرهم في غمرتهم حتى حين. أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون {المؤمنون:54-56}، قال السعدي: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات} أي: أيظنون أن زيادتنا إياهم بالأموال والأولاد، دليل على أنهم من أهل الخير والسعادة، وأن لهم خير الدنيا والآخرة؟ وهذا مقدم لهم، ليس الأمر كذلك. {بل لا يشعرون} أنما نملي لهم، ونمهلهم، ونمدهم بالنعم؛ ليزدادوا إثما، وليتوفر عقابهم في الآخرة، وليغتبطوا بما أوتوا {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة}. اهـ. وانظر الفتويين: 21400، 162017. ولمزيد الفائدة يرجى الاطلاع على الفتوى: 117638.

هذا مع التنبيه على إن إقامة العدل المطلق، لا يكون في الدنيا، وإنما يكون في الآخرة، كما قال تعالى: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين {الأنبياء:47}، وقال عز وجل: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. {إبراهيم 42}، قال ابن كثير: أي: لا تحسبه إذ أنظرهم، وأجلهم، أنه غافل عنهم، مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم، ويعده عدا. اهـ. وقد سبق التنبيه على ذلك في الفتويين: 120102، 124756.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات