السؤال
لقد أشكل علي حديث آخر من يدخل الجنة: فقد قرأت مرة أنه يكبو على الصراط. وفي حديث آخر أنه يدخل النار ثم يخرج منها.
فبعض الأحاديث تدل على أنه آخر رجل من أهل الجنة دخولا إليها، أي لا يدخل النار. وأخرى تدل على أنه آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة. فكيف هذا؟
ثم إن هناك من يقول إن المؤمنين يموتون في النار ويصيرون فحما -نسأل الله العافية- ثم يخرجهم الله سبحانه وتعالى برحمته، ويلقون في نهر يقال له نهر الحياة، فينبتون منه أي إنهم لا يتكلمون.
فهل هذا يعني أن هذا الرجل لا يموت على خلافهم، ويدعو الله أن يخرجه منها كما في الحديث أم لا يدخل النار أصلا، ويكون آخر من يمر على الصراط؟
وكيف نوفق بين الأحاديث التي تجمع هذا وذاك؟
أفيدونا أفادكم الله.
وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ورد في وصف آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها: عدة أحاديث، رواها الإمام مسلم في صحيحه في موضع واحد.
وبوب عليها النووي بابين متتابعين، أولهما: (باب آخر أهل النار خروجا)، وثانيهما (باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها). وهي من رواية: ابن مسعود، وأبي سعيد، والمغيرة بن شعبة، وأبي ذر، وجابر.
وحديث ابن مسعود له عند مسلم روايتان، إحداهما عند البخاري أيضا، بلفظ: إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار: رجل يخرج حبوا، فيقول له ربه: ادخل الجنة ... الحديث.
والرواية الأخرى انفرد بها مسلم بلفظ: آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك ... الحديث.
ولفظ حديث أبي ذر مرفوعا: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها: رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه، فيقال: عملت يوم كذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة ... الحديث.
ومنها أيضا عن أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما في حديث الرؤية الطويل، وفيه: أمر الملائكة أن يخرجوا من يعبد الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود. وحرم الله تعالى على النار أن تأكل أثر السجود، فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود. فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل. ويبقى رجل بين الجنة والنار، وهو آخر أهل النار دخولا الجنة، مقبل بوجهه قبل النار، فيقول: يا رب؛ اصرف وجهي عن النار ... الحديث.
وظاهر هذه الأحاديث فيه نوع من التعارض! فمن أهل العلم من حمل ذلك على ذكر أحوال مختلفة لشخص واحد. ومنهم من حملها على تعدد الأشخاص باعتبار النجاة من المرور على الصراط، أو النجاة من النار نفسها. أو على كونهما نوعين لا شخصين.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم: قوله: آخر أهل الجنة دخولا، وآخر أهل النار خروجا: رجل يخرج منها زحفا، وجاء مثله في آخر من يجوز على الصراط، فيحتمل أنهما اثنان، إما شخصان، أو نوعان وجنسان، وعبر بالواحد فيه عن الجماعة، وقد يحتمل أن المراد بآخر أهل النار خروجا يعني من الورود والجواز على الصراط، لا فيمن أوبق ودخلها فيكون بمعنى واحد، إما في شخص واحد أو جماعة، كما قلناه. اهـ.
ونقله ابن حجر في فتح الباري، ثم قال: وقع عند مسلم من رواية أنس عن ابن مسعود ما يقوي الاحتمال الثاني، ولفظه: "آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة. فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك". وعند الحاكم من طريق مسروق عن ابن مسعود ما يقتضي الجمع. اهـ.
وقال ابن حجر أيضا: أشار ابن أبي جمرة إلى المغايرة بين آخر من يخرج من النار وهو المذكور في الباب الماضي [وهو حديث ابن مسعود بالرواية المتفق عليها]، وأنه يخرج منها بعد أن يدخلها حقيقة. وبين آخر من يخرج ممن يبقى مارا على الصراط، فيكون التعبير بأنه خرج من النار بطريق المجاز؛ لأنه أصابه من حرها وكربها ما يشارك به بعض من دخلها. اهـ.
وقال ابن هبيرة في الإفصاح، عند حديث أبي ذر: قد تقدم فيما مضى شرح حال الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا وآخر أهل النار خروجا في موضعين من مسند ابن مسعود، فإن كان هذا الرجل هو ذاك، ثم قد ذكر كل من الرواة طرفا من حاله، فلا يبعد، إذ ليس يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل أنه آخر أهل النار خروجا منها، ويخرج بعده أحد، فإذا ذكر ذلك في أحاديث متفرقة، دل على أن الحكاية في الأحاديث الثلاثة إنما هي عن رجل واحد، إلا أن كل راو من الرواة قد ذكر طرفا من حديث ذلك الرجل، وقد كان في أمره ما يقتضي هذا التفصيل، وإنه لينتهي به الأمر إلى الشدة الشديدة التي تناهت به إلى أن تخلف في النار بعد خروج أهلها المذنبين بأسرهم منها، وناهيك بذلك شدة، ثم إنه بعد ذلك تناهى به الفضل من الله عز وجل إلى أن أعطاه عشرة أمثال الدنيا، فيكون ما تفضل الله عز وجل به عليه أو وقفه على صغار ذنوبه، ثم بدل له مكان كل سيئة حسنة ... اهـ.
هنا ننبه على خطأ استنتاج السائل وقوله: (إن المؤمنين يموتون في النار ويصيرون فحما ...) فليس في النار ولا في الجنة موت! وإنما المقصود أنه احترق في النار حتى عاد كالفحم من أثر الحرق -والعياذ بالله- كما في حديث أبي سعيد مرفوعا: فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمما، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل. رواه البخاري ومسلم.
وقوله: "امتحشوا" أي احترقوا، والحمم: الفحم. والمقصود هو اسوداد ألوانهم من الحرق، والعياذ بالله. ولذلك رواه البخاري في موضع من صحيحه بلفظ: فيخرجون منها قد اسودوا.
والله أعلم.