0 47

السؤال

سماحة المفتي: يذكر البعض أن أول من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- هم الأحبار الأربعمائة (الذين ذكرهم ابن حجر في الفتح)، والذين لقيهم ملك سبأ "تبع" أسعد أبو كريب. فقد أخبروه بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فصدق به، وكتب كتابا، وأوصى أن يسلم إليه.
واستدلوا أيضا بما ذكره ابن كثير في تفسيره، وغيره من أصحاب السيرة: أن تبعا هذا ملك على قومه ثلاثمائة سنة، وستا وعشرين سنة، وهو الذي مر على المدينة، وحارب أهلها، ثم سالمهم، وترك عندهم لوحا فيه شعر، يذكر فيه أنه مؤمن بالنبي الذي سيبعث، ويهاجر إلى المدينة، فتوارثوه إلى أن وصل إلى سيدنا أبي أيوب الأنصاري، وهو الذي نزل عنده النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قدم المدينة مهاجرا، وتبع هذا هو الذي كسا الكعبة المشرفة، ودعا قومه إلى الإيمان بالله تعالى، ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة الأصنام والنيران، فعاقبهم الله تعالى بما ذكره في سورة سبأ.
وبناء على هذا؛ فيكون أول من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- هم الأحبار الأربعمائة، ثم تبع (أسعد أبو كريب)، ثم ورقة بن نوفل، ثم أبو بكر الصديق -رضوان الله عليه-.
فهل ماقاله هؤلاء، واستدلوا به صحيح؟! أرجو التفضل بالإجابة سائلا المولى -عز وجل- أن يرفع قدركم، وأن ينفع بكم، وأن يجزيكم كل خير.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

 فإن القصة ليست ثابتة، وعلى فرض صحتها لا تدل على أن تبعا أول من أسلم، ولم نقف على أحد من أهل العلم ذكر أن أولئك الأحبار، أو أن تبعا أول من آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، فانظر الفتوى: 49240.

وحتى ورقة بن نوفل: توقف كثير من العلماء في صحبته، وعامتهم على أنه ليس أول من أسلم -بل نفى بعضهم إسلامه أصلا-، وذهبت قلة قليلة من العلماء -كالعراقي- إلى أنه ينبغي القول بأن ورقة أول من أسلم -كما سيأتي في كلام السيوطي-.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: عن عروة أنه قال: مر ورقة بن نوفل على بلال، وهو يعذب، يلصق ظهره بالرمضاء، وهو يقول: أحد أحد.
فقال ورقة: أحد أحد يا بلال، صبرا يا بلال، لم تعذبونه؟ فوالذي نفسي بيده، لئن قتلتموه، لأتخذنه حنانا. يقول: لأتمسحن به.
هذا مرسل، وورقة لو أدرك هذا لعد من الصحابة، وإنما مات الرجل في فترة الوحي، بعد النبوة، وقبل الرسالة، كما في الصحيح .اهـ.

وفي الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر: ذكره الطبري، والبغوي، وابن قانع، وابن السكن، وغيرهم في الصحابة، وأوردوا كلهم من طريق روح بن مسافر أحد الضعفاء، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن ورقة بن نوفل، قال: قلت: يا محمد، كيف يأتيك الذي يأتيك؟ قال: يأتيني من السماء، جناحاه لؤلؤ، وباطن قدميه أخضر. قال ابن عساكر: لم يسمع ابن عباس من ورقة، ولا أعرف أحدا قال: إنه أسلم.

وقد غاير الطبري بين صاحب هذا الحديث وبين ورقة بن نوفل الأسدي، لكن القصة مغايرة لقصة ورقة التي في الصحيحين من طريق الزهري، عن عروة، عن عائشة: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث في مجيء جبريل بحراء، وفيه: فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان تنصر في الجاهلية ... الحديث. وفيه: فقال ورقة هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك، وفي آخره: ولم ينشب ورقة أن توفي.

فهذا ظاهره أنه أقر بنبوته، ولكنه مات قبل أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإسلام، فيكون مثل بحيرا. وفي إثبات الصحبة له نظر .اهـ.

وأما التحقيق في أول من أسلم: فهو التفصيل، بأن يقال: أول من آمن من الرجال الأحرار أبو بكر، والنساء خديجة، ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة. رضي الله عنهم أجمعين. 

بل حكى ابن تيمية الإجماع على هذا، فقال: وقد أجمع الناس على أنه أول من آمن به من الرجال الأحرار، كما أجمعوا على أن أول من آمن به من النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة، وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد خديجة. اهـ. من منهاج السنة.

وجاء في تدريب الراوي للسيوطي: قيل أولهم إسلاما أبو بكر الصديق؛ قاله ابن عباس، وحسان، والشعبي، والنخعي في آخرين. ويدل له ما رواه مسلم عن عمرو بن عبسة في قصة إسلامه، وقوله للنبي -صلى الله عليه وسلم-: من معك على هذا؟ قال: حر وعبد، قال: ومعه يومئذ أبو بكر، وبلال ممن آمن به . وروى الترمذي من رواية أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال أبو بكر: ألست أول من أسلم؟ ... الحديث.

(وقيل: علي) ابن أبي طالب، روى الطبراني بسند فيه إسماعيل السدي، عن أبي ذر وسلمان قالا: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد علي؛ فقال: إن هذا أول من آمن بي ، ورواه أيضا عن سلمان.

وروي بسند آخر عنه قال: " أنا أول من صلى ". وروي ذلك أيضا عن زيد بن أرقم، والمقداد بن الأسود، وأبي أيوب، وأنس، ويعلى بن مرة، وعفيف الكندي، وخزيمة بن ثابت، وخباب بن الأرت، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري. وروى الحاكم في المستدرك من رواية مسلم الملائي قال: نبئ النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء. وادعى الحاكم إجماع أهل التاريخ عليه، ونوزع في ذلك.

(وقيل: زيد) بن حارثة قاله الزهري.
(وقيل: خديجة) أم المؤمنين.
قال المصنف زيادة على ابن الصلاح: (وهو الصواب عند جماعة من المحققين) .
وروي ذلك عن ابن عباس والزهري أيضا، وهو قول قتادة وابن إسحاق (وادعى الثعلبي فيه الإجماع وأن الخلاف فيمن بعدها) . ورواه أحمد في مسنده، والطبراني عن ابن عباس.
وقال ابن عبد البر: اتفقوا على أن خديجة أول من آمن ثم علي بعدها، ثم ذكر أن الصحيح أن أبا بكر أول من أظهر إسلامه.
ثم روي عن محمد بن كعب القرظي أن عليا أخفى إسلامه من أبي طالب، وأظهر أبو بكر إسلامه، ولذلك شبه على الناس. وقال ابن إسحاق: أول من آمن خديجة، ثم علي، ثم زيد بن حارثة، ثم أبو بكر فأظهر إسلامه، ودعا إلى الله فأسلم بدعائه عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله ; فكان هؤلاء الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام.
وذكر عمر بن شبة: أن خالد بن سعيد بن العاص أسلم قبل علي. وقال غيره: إنه أولهم إسلاما.
وحكى المسعودي قولا: أن أولهم خباب بن الأرت، وعن آخر أن أولهم بلال.
ونقل الماوردي في أعلام النبوة عن ابن قتيبة: أن أول من آمن أبو بكر بن أسعد الحميري.

ونقل ابن سبع في الخصائص عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: كنت أولهم إسلاما.
وقال العراقي: ينبغي أن يقال: إن أول من آمن من الرجال ورقة بن نوفل، لحديث الصحيحين في بدء الوحي. قال ابن الصلاح وتبعه المصنف (والأورع أن يقال:) أول من أسلم (من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال) . قال البرماوي: ويحكى هذا الجمع عن أبي حنيفة. اهـ. باختصار.

وراجع للفائدة الفتوى: 179289.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة