الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ريب في أن اليقين شرط من شروط شهادة أن لا إله إلا الله، وأن الإيمان لا يصح مع الشك والارتياب، جاء معارج القبول بشرح سلم الوصول للحكمي -في ذكر شروط شهادة أن لا إله إلا الله-:
اليقين المنافي للشك: بأن يكون قائلها مستيقنا بمدلول هذه الكلمة يقينا جازما؛ فإن الإيمان لا يغني فيه إلا علم اليقين، لا علم الظن, فكيف إذا دخله الشك!؟ قال الله عز وجل: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} إلى قوله: {أولئك هم الصادقون} [الحجرات:15]، فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا، أي: لم يشكوا, فأما المرتاب فهو من المنافقين -والعياذ بالله- الذين قال الله تعالى فيهم: {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} [التوبة:45].
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله, لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة", وفي رواية: "لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما، فيحجب عن الجنة".
وفيه عنه -رضي الله عنه- من حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه، فقال: "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، فبشره بالجنة" الحديث. فاشترط في دخول قائلها الجنة أن يكون مستيقنا بها قلبه، غير شاك فيها, وإذا انتفى الشرط، انتفى المشروط. اهـ.
والشك والريبة في أصول الإيمان من موجبات الكفر، والخروج من الإسلام بالكلية، قال ابن القيم: وأما كفر الشك، فإنه لا يجزم بصدقه ولا يكذبه، بل يشك في أمره، وهذا لا يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، فلا يسمعها، ولا يلتفت إليها، وأما مع التفاته إليها، ونظره فيها، فإنه لا يبقى معه شك؛ لأنها مستلزمة للصدق، ولا سيما بمجموعها، فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار. اهـ. من مدارج السالكين.
مع التنبيه إلى أن الشك إن كان من قبيل الوسوسة التي تهجم على القلب بغير اختيار، ولا تستقر فيه، بل يكرهها المؤمن، ويدافعها؛ فإنها لا تؤثر في صحة الإيمان، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان.
قال ابن تيمية: فإذا أبدى العبد ما في نفسه من الشر -بقول، أو فعل-، صار من الأعمال التي يستحق عليها الذم والعقاب، وإن أخفى ذلك -وكان ما أخفاه متضمنا لترك الإيمان بالله والرسول؛ مثل الشك فيما جاء به الرسول أو بغضه-، كان معاقبا على ما أخفاه في نفسه من ذلك؛ لأنه ترك الإيمان الذي لا نجاة ولا سعادة إلا به.
وأما إن كان وسواسا، والعبد يكرهه، فهذا صريح الإيمان، كما هو مصرح به في الصحيح. وهذه "الوسوسة" هي مما يهجم على القلب بغير اختيار الإنسان، فإذا كرهه العبد ونفاه، كانت كراهته صريح الإيمان. اهـ. مجموع الفتاوى.
وبعد هذا؛ فيتعين عليك إن أردت النجاة أن تتدارك نفسك قبل أن يفجأك الأجل، بتصحيح إيمانك، وتحقيق اليقين التام، وتطهير قلبك من أدران الشك والريبة، وانظر في وسائل تقوية اليقين الفتوى:99547.
كما سبق لنا في كثير من الفتاوى بيان الدلائل العقلية والبراهين على صحة الإسلام، وأنه الدين الحق الذي لا يقبل الشك ولا الارتياب، فراجع طرفا من ذلك في الفتاوى: 54711، 48913، 111062، 75468، 20984، 16999، 421240.
ونوصيك بالرجوع إلى كتابي: (البراهين على وجود الله)، (وبراهين النبوة) للدكتور سامي عامري، وانظر كتاب ومواقع مفيدة في هذا الخصوص في الفتويين: 304762، 423271.
وأما قولك: (فقد أرهقني التفكير في هذا الموضوع، وهناك حديث قد سمعته لا أتذكره بالكامل بأن رجلا جاء إلى علي، فقال له: أنا لا أؤمن باليوم الآخر، فقال له عمر: إذا كان هناك يوم آخر، فأنا ربحت، وأنت خسرت، وإن لم يكن، فأنا ما خسرت شيئا، فهل هذا يدل على أن الإنسان يجوز أن يحتمل أشياء من هذا القبيل، ولكن لا يعمل بها؛ لأنها دون أدلة تثبتها)
فإن هذه الحكاية قد ذكرها الغزالي في كتابيه: إحياء علوم الدين، وميزان العمل، وتبعه غيره، ولم نقف على إسنادها.
وهي على فرض صحتها في مقام الجدل والمناظرة، وإلا فإن الإيمان لا يصح بناؤه على هذا الاحتمال، قال ابن القيم: وأسسوا معاملتهم على اليقين، لا على الشك والتردد، وسلوك طريقة الاحتياط، كما قال القائل:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما؛ فلست بخاسر ... أو صح قولي؛ فالخسار عليكما
هذا طريق أهل الريب والشك يقومون بالأمر والنهي احتياطا، وهذه الطريق لا تنجي من عذاب الله، ولا تحصل لصاحبها السعادة، ولا توصله إلى المأمن. اهـ. من مدارج السالكين.
جاء في حاشية الشهاب على البيضاوي -بعد ذكر الأبيات السابقة-: قال ابن السيد في شرحه: هذا منظوم مما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة: إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة، فقد تخلصنا جميعا، وإن لم يكن الأمر كما تقول، فقد تخلصنا، وهلكت. فذكروا أنه ألزمه، فرجع عن اعتقاده.
وهذا الكلام وان خرج مخرج الشك، فإنما هو تعزير للمخاطب على خطئه، وقلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه، مع أن المناظر على ثقة من أمره، وهو نوع من أنواع الجدل.
تنبيه: هذا النوع يسمى استدراجا، قال في المثل السائر: الاستدراج نوع من البلاغة، استخرجته من كتاب الله تعالى، وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال، يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن، وهو قريب من المغالطة، وليس منها، كقوله تعالى: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} [غافر: 28]
ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله: إن يك كاذبا، فكذبه عائد عليه، وأن يصدق، يصبكم بعض ما وعدكم به، ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى، فإنه نبي صادق، فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به لا بعضه، لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم؛ لما فيه من الملاطفة في النصح بكلام منصف غير مشتط مشدد، أراهم أنه لم يعطه حقه، ولم يتعصب له ويحامي عنه؛ حتى لا ينفروا عنه؛ ولذا قدم قوله: كاذبا، ثم ختم بقوله: إن الله لا يهدي.. الخ، يعني أنه نبي على الهدى، ولو لم يكن كذلك، ما آتاه الله النبوة وعضده، وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى. اهـ.
وأما قوله سبحانه: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين {الحجر:99}، فمعناه: اعبد -يا محمد- ربك حتى يأتيك الموت الذي أنت موقن به. وراجع في هذا الفتوى: 20368.
فقولك: (وأن الله قال: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، فهل هذا يدل على أننا لن نتيقن يقينا تاما في الدنيا؟) فهذا فهم غير صحيح للآية، ولا يمت لها بصلة.
والله أعلم.