الموازنة بين الغنى والفقر

0 25

السؤال

ما أطلبه منكم فتوى واستشارة في نفس الوقت، فهي استشارة قائمة على الفتوى
الموضوع هو كالتالي:
أنا الآن شاب في مفترق طرق، ولم أعمل بعد في مجال مهني أستقر عليه، ولدي فرصة أن أعمل في مجال يكون سببا في بناء ثروة ضخمة، وطبعا الأمر بالاستخارة، فالله يختار، لا تقل لي: استخر، فأنا أستخير الله، سؤالي هو كيف نجمع بين حديثين، ونعمل بهما. وهما كالتالي:
حديث:(لا بأس بالغنى لمن اتقى الله عز وجل، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى، وطيب النفس من النعيم). [ابن ماجه، وصححه الألباني].
وحديث:{ قمت على باب الجنة، فإذا عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وقمت على باب النار، فإذا عامة من دخلها النساء}. متفق عليه.
فالحديث الأول يسمح للمسلم بالسعي نحو الثراء بشرط أن يتقي الله تعالى.
والحديث الثاني يخبر أن أصحاب المال يتأخرون عن الناس في دخول الجنة بسبب كثرة أموالهم التي يحاسبون عليها.
فمفهوم الحديث الأول السماح بالسعي للغنى، ومفهوم الحديث الثاني أن المسلم إذا صار غنيا، فإنه سيتأخر عن دخول الجنة، ولا أحد يرضى إذا شاء الله أن يتأخر عن الجنة يوم القيامة.
فما الذي يفعله المسلم في هذا الشأن؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالحديث الثاني -وإن كان فيه فضيلة للفقير الصابر-، فليس فيه ذم للغني الشاكر! فالتأخر عن دخول الجنة ليس عقابا، بل حساب، حيث يسأل عن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ فإن كان قد اتقى الله في ماله، واستعمله فيما يرضي الله تعالى، كان مآله بعد ذلك إلى الجنة، وتكون درجته بعد ذلك بحسب عمله، فيكون أرفع قدرا، وأعلى درجة ممن كان دونه في التقوى من الفقراء.

وعلى أية حال، فالمفاضلة بين الغني والفقير، إنما تكون بحسب حال العبد، وتحقيقه لمراتب العبودية، فأفضلهما، وأعلاهما درجة، وأحبهما إلى الله: هو أتقاهما، كما سبق أن بيناه في الفتوى: 405115. وما أحيل عليه فيها. 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -كما في مجموع الفتاوى-: كان في أكابر الأنبياء والمرسلين والسابقين الأولين من كان غنيا: كإبراهيم الخليل وأيوب وداود وسليمان وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وأسعد بن زرارة وأبي أيوب الأنصاري وعبادة بن الصامت ونحوهم. ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين. وفيهم من كان فقيرا: كالمسيح عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا وعلي بن أبي طالب وأبي ذر الغفاري ومصعب بن عمير وسلمان الفارسي ونحوهم. ممن هو من أفضل الخلق من النبيين والصديقين، وقد كان فيهم من اجتمع له الأمران: الغنى تارة، والفقر أخرى؛ وأتى بإحسان الأغنياء وبصبر الفقراء: كنبينا -صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر وعمر.

 والنصوص الواردة في الكتاب والسنة حاكمة بالقسط؛ فإن الله في القرآن لم يفضل أحدا بفقر ولا غنى، كما لم يفضل أحدا بصحة ولا مرض، ولا إقامة ولا سفر، ولا إمارة ولا ائتمار، ولا إمامة ولا ائتمام؛ بل قال: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وفضلهم بالأعمال الصالحة: من الإيمان ودعائمه وشعبه؛ كاليقين والمعرفة ومحبة الله والإنابة إليه والتوكل عليه ورجائه وخشيته وشكره والصبر له. اهـ.

وقال عن حديث : يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم: هذا فيه تفضيل الفقراء المؤمنين بأنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء المؤمنين، وكلاهما حق؛ فإن الفقير ليس معه مال كثير يحاسب على قبضه وصرفه، فلا يؤخر عن دخول الجنة لأجل الحساب، فيسبق في الدخول، وهو أحوج إلى سرعة الثواب لما فاته في الدنيا من الطيبات. والغني يحاسب فإن كان محسنا في غناه غير مسيء، وهو فوقه، رفعت درجته عليه بعد الدخول، وإن كان مثله ساواه، وإن كان دونه نزل عنه. وليست حاجته إلى سرعة الثواب كحاجة الفقير. ونظير هذا قوله -صلى الله عليه وسلم- في حوضه الذي طوله شهر وعرضه شهر: "ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، أول الناس علي وردا فقراء المهاجرين: الدنسين ثيابا، الشعث رءوسا، الذين لا ينكحون المتنعمات، ولا تفتح لهم أبواب الملوك، يموت أحدهم، وحاجته تختلج في صدره، لا يجد لها قضاء". فكانوا أسبق إلى الذي يزيل ما حصل لهم في الدنيا من اللأواء والشدة، وهذا موضع ضيافة عامة، فإنه يقدم الأشد جوعا في الإطعام، وإن كان لبعض المستأخرين نوع إطعام ليس لبعض المتقدمين لاستحقاقه ذلك ببذله عنده أو غير ذلك، وليس في المسألة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أصح من هذين الحديثين، وفيها الحكم الفصل: إن الفقراء لهم السبق، والأغنياء لهم الفضل. اهـ.

وعلى ذلك؛ فمن فتح له باب من أبواب الغنى، فدخله، واتقى الله فيه، واستعان بماله على طاعة الله، والإحسان إلى الخلق، فهذا أفضل، وصاحبه في أعلى المنازل، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما، ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان -فهو بنيته-، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان -فهو بنيته- فوزرهما سواء. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني

وعن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم! فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم؟ ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تسبحون، وتكبرون، وتحمدون، دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. رواه مسلم.

قال القاضي عياض في إكمال المعلم: قال أبو القاسم بن أبي صفرة: فيه نص على فضل الغني -نصا لا تأويلا- إذا استوت أعمالهم بما فرض الله عليهم، فللغني حينئذ فضل أعمال البر المتعلقة بالأموال بما لا سبيل للفقير إليها، وإنما يفضل الفقر والغنى إذا فضل صاحبه بالعمل، فهذا ظاهر معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فضل الله يؤتيه من يشاء" . اهـ.

وقال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: الفقراء ذكروا للرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يقتضي تفضيل الأغنياء بسبب القربات المتعلقة بالمال، وأقرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك. ولكن علمهم ما يقوم مقام تلك الزيادة. فلما قالها الأغنياء ساووهم فيها، وبقي معهم رجحان قربات الأموال، فقال عليه السلام: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء". فظاهره القريب من النص: أنه فضل الأغنياء بزيادة القربات المالية. وبعض الناس تأول قوله "وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" بتأويل مستكره، ويخرجه عما ذكرناه من الظاهر. والذي يقتضيه الأصل أنهما إن تساويا وحصل الرجحان بالعبادات المالية أن يكون الغني أفضل، ولا شك في ذلك. اهـ. 

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما يفضل الغنى لأجل الإحسان إلى الخلق، والإنفاق في سبيل الله، والاستعانة به على طاعة الله وعبادته، وإلا فذات ملك المال لا ينفع، بل قد يضر ... وفتنة الغنى أعظم من فتنة الفقر، فالسالم منها أقل. ومن سلم منها كان أفضل ممن سلم من فتنة الفقر فقط. اهـ. وانظر لمزيد الفائدة الفتوى: 365908.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات