الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات" من القواعد المتفق عليها، وقد تكلم أهل العلم عليها كثيرا، يقول الزركشي في المنثور في القواعد: "الضرورات تبيح المحظورات"؛ ومن ثم أبيحت الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر لمن غص ولم يجد غيرها، وأبيحت كلمة الكفر للمكره. وإذا عم الحرام قطرا بحيث لا يوجد فيه حلال إلا نادرا؛ فإنه يجوز استعمال ما يحتاج إليه، ولا يقتصر على الضرورة. اهـ.
أما دليل هذه القاعدة، فقد فصل فيه الشيخ عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف، في كتابه: "القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير"، وهو من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حيث يقول: معنى هذه القاعدة: أن المحرم يصبح مباحا إذا عرض للمكلف ضرورة تقتضي ذلك؛ بحيث لا تندفع تلك الضرورة إلا بارتكاب ذلك المحرم، كما إذا اشتد الجوع بالمكلف وخشي الهلاك؛ فإنه يجوز له أكل الميتة، ونحوها، وفي معنى هذا -أيضا- سقوط بعض الواجبات، أو تخفيفها بسب الضرورة، ويشير إلى هذا المعنى القاعدة التي تقدمت قريبا: ((لا واجب مع عجز، ولا حرام مع ضرورة)).
الأدلة:
أولا: يدل لهذه القاعدة ما ورد من الآيات والأحاديث دالا على أن للمضطر حكما يخالف غيره، وأنه يباح له ما لا يباح لغيره، ومن ذلك:
1) قول الله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم} {البقرة:173}.
2) وقوله تعالى: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} المائدة: (3).
3) وقوله سبحانه: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} الأنعام (119).
4ـ وقوله عز وجل: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} الأنعام (145).
5- من السنة ما وراه جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: "أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت، فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها، فلم يجد صاحبها، فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبى، فنفقت، فقالت: اسلخها؛ حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه فسأله، فقال: "هل عندك غنى يغنيك؟" قال: لا. قال: "فكلوها". قال: فجاء صاحبها، فأخبره الخبر. فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك".
ثانيا: عموم الأدلة التي تدل على يسر الشريعة أصلا، وعلى التخفيف عند وجود العذر الطارئ، ومنها:
قوله تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، وقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}، وقوله عز وجل: {وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} الآية.
عمل الفقهاء بالقاعدة:
هذه القاعدة من القواعد المتفق عليها، فقد نص عليها الفقهاء من المذاهب الأربعة في كتب القواعد، وفي كتب الفروع، وصرح الشيخ السعدي بالاتفاق عليها، كما نقل ابن المنذر، وغيره الإجماع على إباحة الميتة للضرورة، وهي إحدى مسائل هذه القاعدة. اهـ.
العمل بهذه القاعدة عام في جميع الأحكام، فيشمل التعامل مع البنوك الربوية عند الضرورة، إذا لم يوجد غيرها، يقول أبو الحارث الغزي في القواعد الفقهية، متحدثا عن أمثلة هذه القاعدة: ومنها: جواز الاستقراض بالربا، إذا لم يجد من يقرضه بدونه -وهو مضطر إلى المال لإقامة أود حياته، أو لإجراء عملية ضرورية، أو دواء مضطر إليه، والإثم على المقرض. اهـ.
ولمعرفة حدود الضرورة المبيحة للتعامل بالربا، راجع الفتويين: 22567، 198199.
وبخصوص الآيات الثلاث التي ذكرت أرقامها؛ فإنها تعتبر من أدلة القاعدة التي بين أيدينا، وإن كانت تلك الآيات قد وردت في سبب خاص، كأكل الميتة للمضطر، أو نحو ذلك، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه قاعدة معروفة عند أهل العلم، ولا تعتبر من الزيادة على النص، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وقد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم: هذه الآية نزلت في كذا، لا سيما إن كان المذكور شخصا، كأسباب النزول المذكورة في التفسير، كقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت، وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني، أو هلال بن أمية، ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة، أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، أو في قوم من المؤمنين، فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم؛ فإن هذا لا يقوله مسلم، ولا عاقل على الإطلاق، والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص، فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ.
والآية التي لها سبب معين، إن كانت أمرا ونهيا، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبرا بمدح أو ذم، فهي متناولة لذلك الشخص وغيره ممن كان بمنزلته أيضا. اهـ.
والله أعلم.