الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكلام ابن تيمية الذي تشير إليه، هو قوله كما في مجموع الفتاوى: روى أبو داود في السنن: أنه كان مع ابن عمر -فمر براع معه زمارة فجعل يقول: أتسمع يا نافع؟ فلما أخبره أنه لا يسمع، رفع إصبعيه من أذنيه، وأخبره أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ففعل مثل ذلك. وقال أبو داود لما روى هذا الحديث: هذا حديث منكر. وقد رواه أبو بكر الخلال من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا.
فهذا الحديث إن كان ثابتا، فلا حجة فيه على إباحة الشبابة؛ بل هو على النهي عنها أولى من وجوه:
أحدها: أن المحرم هو الاستماع لا السماع، فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه؛ بل كان مجتازا بطريق فسمع ذلك، لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين...
فإذا عرف أن الأمر والنهي والوعد والوعيد يتعلق بالاستماع؛ لا بالسماع، فالنبي صلى الله عليه وسلم وابن عمر كان مارا مجتازا لم يكن مستمعا. وكذلك كان ابن عمر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونافع مع ابن عمر: كان سامعا لا مستمعا. فلم يكن عليه سد أذنه.
الوجه الثاني: أنه إنما سد النبي صلى الله عليه وسلم أذنيه مبالغة في التحفظ حتى لا يسمع أصلا. فتبين بذلك أن الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع، وإن لم يكن في السماع إثم، ولو كان الصوت مباحا لما كان يسد أذنيه عن سماع المباح؛ بل سد أذنيه؛ لئلا يسمعه وإن لم يكن السماع محرما. دل على أن الامتناع من الاستماع أولى. فيكون على المنع من الاستماع أدل منه على الإذن فيه.
الوجه الثالث: أنه لو قدر أن الاستماع لا يجوز، فلو سد هو ورفيقه آذانهما لم يعرفا متى ينقطع الصوت، فيترك المتبوع سد أذنيه.
الرابع: أنه لم يعلم أن الرفيق كان بالغا؛ أو كان صغيرا دون البلوغ. والصبيان يرخص لهم في اللعب ما لا يرخص فيه للبالغ.
الخامس: أن زمارة الراعي ليست مطربة كالشبابة التي يصنع غير الراعي، فلو قدر الإذن فيها لم يلزم الإذن في الموصوف، وما يتبعه من الأصوات التي تفعل في النفوس فعل حمي الكؤوس .اهـ.
وكما ترى فالنص ليس فيه تقرير هذا الحكم الذي تريد الوصول إليه، وهو إباحة إسماع الصبيان المعازف مطلقا، وإنما هو جواب عن عدم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بسد أذنيه، وفي كلام ابن تيمية أيضا أن الزمارة لو سلم جدلا بالإذن فيها، فلا يلزم الإذن فيما هو أشد إطرابا منها من الآلات كالشبابة، فكيف تقاس آلات اللهو المعاصرة المطربة أشد الطرب على زمارة الراعي؟ -على فرض ثبوت الحديث أصلا-
وعلى كل: فالذي نفتي به ونقرره هو حرمة تعمد إسماع الصبي الموسيقى مطلقا، وراجع في بيانه الفتاوى: 107683، 295450، 230035.
وأما الأقيسة التي ذكرتها: (يمكن أن نقول إن الأم تأثم إذا سمحت لابنها غير البالغ بالجلوس معها في مجالس النساء، أو سمحا لابنهما الصغير أن يلعب مع البنات الصغيرات في الشارع، أو أن تسمح الأم لابنها أن يشاهد معها امرأة في التلفاز، أو أن يشتري الأب لابنته الصغيرة لباسا لا يجوز للبالغة لبسه أمام الأجانب، أو أن يسمح لها أن تصافح رجلا كبيرا، إلى غيرها من الأمور التي لا يشك عاقل أنها تورث شيئا من التعود.)
فهي لا تعكر على الحكم الذي قررناه، فنحن لم نقل إن كل ما يحرم على البالغ فإنه يحرم الصبي حتى تأتي بهذه الإلزامات ! فضلا عن النصوص الصريحة في جواز جملة مما ذكرت، وأنه لا يقول أحد بتحريمها، وليس هذا مقام مناقشة وتفصيل كل مسألة من هذه المسائل الكثيرة التي ذكرتها.
والله أعلم.