السؤال
أعمل في شركة بوظيفة عامل، لكن لدي معرفة بالكمبيوتر وتسجيل الأوراق، وبعد انتهاء فترة عملي الأساسية يناديني المحاسب لأتم له أعماله الورقية، ثم يعطيني أجرا على هذا العمل من ماله الشخصي، لكني اكتشفت أن المال الخاص بالمحاسب في الأصل يأتي به عن طريق الحرام، عبر التلاعب بحسابات الشركة. فهل أمتنع عن المال الذي آخذه منه، أم أنا بعيد عن الحرام طالما آخذ المال مقابل خدمتي له فقط، ولا أشاركه في التلاعب بحسابات الشركة؟وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن المحاسب موظف في الأصل عند الشركة، وتعطيه راتبا، فإذا كان يعطيك أجرك من راتبه، فلا حرج فيه، ولو ثبت لك بيقين أن في ماله ما ليس مباحا، عليك أولا أن تنصحه وتذكره بالله تعالى، وبشؤم أخذ المال من غير طيب نفس من مالكه الشرعي. وأما عملك عنده، وأخذك الأجرة منه مع كون ماله مختلطا من حلال وحرام، فجائز على الراجح، ما دام العمل الذي تقوم به حلالا، وذهب بعضهم للكراهة، ولكن الراجح عندنا أن اختلاط المال، والشك في مال الشخص، لا يجعل التعامل مع صاحبه حراما، ما لم يعلم أن عين ما يؤجرك به حاصل من الحرام.
فقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الذين غالب أموالهم حرام، مثل المكاسين، وأكلة الربا، وأشباههم.. فهل يحل أخذ طعامهم بالمعاملة أم لا؟
فأجاب: الحمد لله، إذا كان في أموالهم حلال وحرام، ففي معاملتهم شبهة، لا يحكم بالتحريم إلا إذا عرف أنه يعطيه ما يحرم إعطاؤه، ولا يحكم بالتحليل إلا إذا عرف أنه أعطاه من الحلال، فإن كان الحلال هو الأغلب لم يحكم بتحريم المعاملة، وإن كان الحرام هو الأغلب، قيل: بحل المعاملة. وقيل: بل هي محرمة. انتهى من (مجموع الفتاوى 29 / 272).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى أيضا: ما في الوجود من الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض إن عرفه المسلم اجتنبه، فمن علمت أنه سرق مالا، أو خانه في أمانته، أو غصبه فأخذه من المغصوب قهرا بغير حق، لم يجز لي أن آخذه منه لا بطريق الهبة ولا بطريق المعاوضة، ولا وفاء عن أجرة ولا ثمن مبيع، ولا وفاء عن قرض. فإن هذا عين مال ذلك المظلوم، وإن كان مجهول الحال، فالمجهول كالمعدوم، والأصل فيما بيد المسلم أن يكون ملكا له إن ادعى أنه ملكه، فإذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده، بنيت الأمر على الأصل، ثم إن كان ذلك الدرهم في نفس الأمر قد غصبه هو، ولم أعلم أنا كنت جاهلا بذلك، والمجهول كالمعدوم، لكن إن كان ذلك الرجل معروفا بأن في ماله حراما، ترك معاملته ورعا، وإن كان أكثر ماله حراما ففيه نزاع بين العلماء .... اهـ. بتصرف يسير.
ويدل لرجحان ما ذكرناه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يبايع اليهود في المدينة، وهم أكلة السحت، وأجاب دعوة يهودي دعاه على خبز شعير، وإهالة سنخة، كما في الحديث الذي رواه أحمد. وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
وفي الحديث: أن امرأة يهودية أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشاة مسمومة، فأكل منها. رواه مسلم.
وأخرج الشيخان من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير.
وكان الصحابة في عصره وبعده يتعاملون مع اليهود، فقد روى الطبراني في الأوسط عن كعب بن عجرة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فرأيته متغيرا، فقلت: بأبي أنت ما لي أراك متغيرا؟ قال: ما دخل في جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث! قال: فذهبت، فإذا بيهودي يسقي إبلا له، فسقيت له على كل دلو بتمرة، فجمعت تمرا، فأتيت به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: من أين لك يا كعب؟ فأخبرته.... والحديث حسنه الألباني في صحيح الترغيب.
وقال ابن العربي في أحكام القرآن: الصحيح جواز معاملتهم مع رباهم، واقتحامهم ما حرم الله -سبحانه- عليهم، فقد قام الدليل على ذلك قرآنا، وسنة. قال الله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم.... إلى أن قال: والحاسم لداء الشك والخلاف، اتفاق الأئمة على جواز التجارة مع أهل الحرب، وقد سافر النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهم تاجرا. انتهى.
وقال ابن حزم في المحلى: وقد ابتاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعاما من يهودي بالمدينة ورهنه درعه، فمات -عليه السلام- وهي رهن عنده، وذكرناه بإسناده في كتاب الرهن من ديواننا هذا، فهذه تجارة اليهود جائزة ومعاملتهم جائزة، ومن خالف هذا فلا برهان له. اهـ.
والله أعلم.