الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلم نجد فيما بين أيدينا من الكتب ما يفيد النهي عن النظر إلى الطعام.
ولكن وردت أحاديث تفيد أن ترك الكيل، والعد، والإحصاء للطعام، أو المال سبب لحصول البركة.
فمن ذلك ما رواه البخاري، ومسلم عن عائشة قالت: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه، حتى طال علي، فكلته ففني.
وما رواه مسلم عن جابر -رضي الله عنه- أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستطعمه، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه، وامرأته، وضيفهما، حتى كاله، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: لو لم تكله لأكلتم منه، ولقام لكم.
وفيه أيضا من حديث جابر: أن أم مالك كانت تهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم- في عكة لها سمنا، فيأتيها بنوها فيسألون الأدم، وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فتجد فيه سمنا، فما زال يقيم لها أدم بيتها، حتى عصرته، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: عصرتيها؟ قالت: نعم. قال: لو تركتيها ما زال قائما. وغيرها من الأحاديث.
قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم: البركة تكون في المجهولات، والمبهمات، وأما ما حصر بالعدد، أو بالكيل، فمعرف قدره. اهـ. بتصرف
وقال أبو العباس القرطبي -رحمه الله- في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: ورفع النماء من ذلك عند العصر، والكيل سببه -والله أعلم- الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نعم الله، ومواهب كراماته، وكثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها، والثقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة. اهــ.
أما إذا كان الكيل، أو العد من باب تدبير أمور المعاش، وحسن النظر حتى يبلغ الإنسان القصد بين الإسراف، والتقتير، مع الاعتماد على الله، فهذا مندوب إليه، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن المقدام بن معديكرب -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: كيلوا طعامكم يبارك لكم.
قال ابن بطال -رحمه الله تعالى- في شرح صحيح البخاري: الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله، وندب النبي أمته إليه يدل على البركة فيه، ومعنى الحديث أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدرتم، مع ما وضع الله من البركة في مد أهل المدينة بدعوته -صلى الله عليه وسلم-. انتهى.
وقال ابن الملقن في التوضيح: وقد كان الشارع يدخر لأهله قوت سنة، ولم يكن ذلك، إلا بعد معرفة الكيل. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والحاصل أن الكيل بمجرده لا تحصل به البركة ما لم ينضم إليه أمر آخر، وهو امتثال الأمر فيما يشرع فيه الكيل، ولا تنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمر آخر، كالمعارضة، والاختبار. اهـ.
وجاء -أيضا- في شرح صحيح مسلم للقاضي عياض المسمى إكمال المعلم بفوائد مسلم: ولا يعارض هذا الكيل في إخراج النفقة؛ لما جاء: "كيلوا طعامكم يبارك لكم" إذا بقي الأصل مجهولا، بل في كيل ما يخرج البركة في الباقي، وحسن النظر، والإخراج عن الحزر، والجزاف بسبب التبذير، وإخراج أكثر من الحاجة، وليس ذلك من تدبير المعيشة التي هي أحد اليسارين. وهذا معنى الحديث الآخر، ولا تعارض بينهما. انتهى.
والله أعلم.