[ ص: 251 ] القول في
تأويل قوله : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( 6 ) )
اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية ، وفيمن نزلت . فكان
ابن عباس يقول ، كما : -
295 - حدثنا به
محمد بن حميد ، قال حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=13655سلمة بن الفضل ، عن
محمد بن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : "
إن الذين كفروا " ، أي بما أنزل إليك من ربك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما قد جاءنا من قبلك .
وكان
ابن عباس يرى أن هذه الآية نزلت في
اليهود الذين كانوا بنواحي
المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توبيخا لهم في جحودهم نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به ، مع علمهم به ومعرفتهم بأنه رسول الله إليهم وإلى الناس كافة .
296 - وقد حدثنا
ابن حميد ، قال : حدثنا
سلمة ، عن
ابن إسحاق ، عن
محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن
عكرمة أو عن
سعيد بن جبير ، عن
ابن عباس : أن صدر سورة البقرة إلى المائة منها ، نزل في رجال سماهم بأعيانهم وأنسابهم من أحبار يهود ، من المنافقين من الأوس والخزرج . كرهنا تطويل الكتاب بذكر أسمائهم .
[ ص: 252 ]
وقد روي عن
ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر ، وهو ما : -
297 - حدثنا به
المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا
عبد الله بن صالح ، عن
علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس ، قوله : (
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله جل ثناؤه أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول .
وقال آخرون بما : -
298 - حدثت به عن
عمار بن الحسن ، قال : حدثنا
عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن
الربيع بن أنس ، قال : آيتان في قادة الأحزاب : (
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) ، قال : وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية : (
ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ) [ سورة إبراهيم : 28 ، 29 ] ، قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر .
وأولى هذه التأويلات بالآية تأويل
ابن عباس الذي ذكره
محمد بن أبي محمد ، عن
عكرمة ، أو عن
سعيد بن جبير عنه . وإن كان لكل قول مما قاله الذين ذكرنا قولهم في ذلك مذهب .
[ ص: 253 ]
فأما مذهب من تأول في ذلك ما قاله
الربيع بن أنس ، فهو أن الله تعالى ذكره لما أخبر عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون ، وأن الإنذار غير نافعهم ، ثم كان من الكفار من قد نفعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة - لم يجز أن تكون الآية نزلت إلا في خاص من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادة الأحزاب لا شك أنهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه ، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم
بدر - علم أنهم ممن عنى الله جل ثناؤه بهذه الآية .
وأما علتنا في اختيارنا ما اخترنا من التأويل في ذلك ، فهي أن قول الله جل ثناؤه (
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ، عقيب خبر الله جل ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب ، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله . فأولى الأمور بحكمة الله ، أن يتلي ذلك الخبر عن كفارهم ونعوتهم ، وذم أسبابهم وأحوالهم ، وإظهار شتمهم والبراءة منهم . لأن مؤمنيهم ومشركيهم - وإن اختلفت أحوالهم باختلاف أديانهم - فإن الجنس يجمع جميعهم بأنهم بنو إسرائيل .
وإنما احتج الله جل ثناؤه بأول هذه السورة لنبيه صلى الله عليه وسلم على مشركي
اليهود من أحبار بني إسرائيل ، الذين كانوا مع علمهم بنبوته منكرين نبوته - بإظهار نبيه صلى الله عليه وسلم على ما كانت تسره الأحبار منهم وتكتمه ، فيجهله عظم
اليهود وتعلمه الأحبار منهم - ليعلموا أن الذي أطلعه على علم ذلك ، هو الذي أنزل الكتاب على
موسى . إذ كان ذلك من الأمور التي لم يكن
محمد [ ص: 254 ] صلى الله عليه وسلم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على
محمد صلى الله عليه وسلم ، فيمكنهم ادعاء اللبس في أمره عليه السلام أنه نبي ، وأن ما جاء به فمن عند الله . وأنى يمكن ادعاء اللبس في صدق أمي نشأ بين أميين لا يكتب ولا يقرأ ، ولا يحسب ، فيقال قرأ الكتب فعلم ، أو حسب فنجم ؟ وانبعث على أحبار قراء كتبة - قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم - يخبرهم عن مستور عيوبهم ، ومصون علومهم ، ومكتوم أخبارهم ، وخفيات أمورهم التي جهلها من هو دونهم من أحبارهم . إن أمر من كان كذلك لغير مشكل ، وإن صدقه لبين .
ومما ينبئ عن صحة ما قلنا - من أن الذين عنى الله تعالى ذكره بقوله : (
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) هم أحبار
اليهود الذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه - اقتصاص الله تعالى ذكره نبأهم ، وتذكيره إياهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر
محمد عليه السلام ، بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتص من أمر المنافقين ، واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس
وآدم - في قوله : (
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) سورة البقرة : 40 وما بعدها ، واحتجاجه لنبيه عليهم ، بما احتج به عليهم فيها بعد جحودهم نبوته . فإذ كان الخبر أولا عن مؤمني أهل الكتاب ، وآخرا عن مشركيهم ، فأولى أن يكون وسطا : - عنهم . إذ كان الكلام بعضه لبعض تبع ، إلا أن تأتيهم دلالة واضحة بعدول بعض ذلك عما ابتدأ به من معانيه ، فيكون معروفا حينئذ انصرافه عنه .
[ ص: 255 ]
وأما معنى الكفر في قوله "
إن الذين كفروا " فإنه الجحود . وذلك أن الأحبار من يهود
المدينة جحدوا نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم وستروه عن الناس وكتموا أمره ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم .
وأصل الكفر عند العرب : تغطية الشيء ، ولذلك سموا الليل "كافرا " ، لتغطية ظلمته ما لبسته ، كما قال الشاعر :
فتذكرا ثقلا رثيدا ، بعدما ألقت ذكاء يمينها في كافر
وقال
لبيد بن ربيعة :
في ليلة كفر النجوم غمامها
يعني غطاها . فكذلك الأحبار من
اليهود غطوا أمر
محمد صلى الله عليه وسلم وكتموه الناس - مع علمهم بنبوته ، ووجودهم صفته في كتبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم : (
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) سورة البقرة : 159 ، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم : (
إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .