القرآن بالنسبة للمسلمين هو دستورهم وسبب نهضتهم،ولكنه بالنسبة للمستشرقين يعتبر كتاب دراسة وطريقاً للمطاعن والتشويه وإثارة الشبهات. وقد درس المستشرقون، والغربيون عموماً، القرآن بمنهج تعصبي حاقد ومن منطلق علماني صليبي مؤيد للمواقف السياسية العدائية للغرب تجاه الإسلام والمسلمين.
والموقف الأخير لبابا الفاتيكان من القرآن ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، مناسبة لأن نطرح موضوعاً مهماً وهو كيفية استقاء الغرب لمعرفته عن الإسلام.
وقد بدأت الدراسات الاستشراقية بترجمة القرآن ترجمة عاجزة ومغرضة وكل ما بني على هذه الترجمات فهو مغرض ومضلل. والمدارس الاستشراقية كلها تتفق على مساندة الاستعمار الغربي الذي يتوجه لاستعمار الدول الإسلامية خاصة. حيث كانت بلاد المسلمين تمثل النسبة الأكبر في خريطة الاستعمار الحديث. وقد انتهت البحوث والدراسات الاستشراقية إلى نتائج محددة منها الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بل وفي سلوكه وشخصيته، واتهامه بالكذب والتزوير، وأنه لم تجر على يديه أية معجزة، وأنه شخصية أقرب ما تكون إلى محضري الأرواح والدجالين.
والطعن في نبوة وشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الموضوع المحبب إلى العلمانيين والصليبيين، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو إمام المسلمين ورسولهم وقائدهم وملهمهم، وهو الشخصية التي التفت حولها قلوب المسلمين من مكة إلى الصين ومن مجاهل أفريقيا إلى أمريكا واستراليا.
لقد وقف الفيلسوف الإنجليزي توماس كارليل عام 1864 في جامعة أدنبره العريقة في الدراسات الصليبية وبالرغم من أنه هاجم القرآن إلا أنه عندما جاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال 'لقد أصبح من العار على أي فرد متمدين أن يستمع أو يصدق ما يقال من أن محمداً كان دجالا وكذابا. فكيف بالله عليكم يستطيع الكذاب أن يبني أمة عظيمة تمتد جذورها في هذه المساحة الشاسعة؟. وكيف بالله عليكم للكذاب أن يأتي بكتاب يستطيع أن يسيطر على نفوس وعقول وقلوب معظم سكان الأرض؟'.
أوهموا أنفسهم أن القرآن من تأليف محمد
إن المستشرقين اتفقوا على الجزم بأن القرآن من تأليف محمد، ومهما اختلفت طرق المستشرقين التأليفية والعقلية والمنهجية، فإنهم جميعاً متفقون على أن القرآن من تأليف محمد، وأن كلامه ليس وحيا من عند الله. وما دام الأمر كذلك من وجهة نظرهم، فقد راحوا يبحثون عن مصادر بشرية استقى منها محمد هذا القرآن.
فقالوا إن محمدا أخذ القرآن من اليهود ومن النصارى ومن عرب الجاهلية وأقاموا على ذلك الدعاوى الكثيرة المتهافتة. ووجد المستشرقون بعض الموضوعات المتشابهة بين القرآن والتوراة والإنجيل، خاصة فيما يتعلق بقصص الأنبياء والحدود كالرجم في الزنا، ولكنهم مع ذلك وجدوا موضوعات كثيرة وأعمق مما يتصورون وغير موجودة لا في كتب اليهود ولا في كتب النصارى ولا تطرقت إليها قط عقلية عرب الجاهلية.
ولو كان المستشرقون ينطلقون في دراساتهم من منطلق الإنصاف لتوقفوا عند هذا ولقالوا: من أين جاء محمد بهذه العلوم العظيمة المتنوعة والعميقة، والتي لم يكن عرب الجاهلية ولا أحد في زمان محمد يفكر فيها؟. وبهذه المناسبة فإن آيات الإعجاز العلمي والآيات الكونية وآيات الأنفس والآفاق في القرآن الكريم كانت بوابة لمئات بل آلاف من الغربيين وخاصة العلماء منهم لدخول الإسلام.
تشويه متعمد
إن ما ردده البابا أخيراً رددته دائماً وسائل الثقافة والإعلام الغربية مؤكدة أن الإسلام انتشر بالسيف، وهذه دعاوى حاقدة وغير حقيقية ولا يمكن لعاقل أو منصف أن يؤمن بها ويصدقها، وأكبر مثال على ذلك شرق آسيا التي انتشر فيها الإسلام سلما وعن طريق التجارة. بل إن البابا لو تجول في شوارع أوروبا وأمريكا الشمالية واستراليا ونيوزيلندا لوجد ملايين من المواطنين الأصليين لتلك الدول والقارات، وليس فقط المهاجرين، قد اعتنقوا وبمحض إرادتهم الحرة الديانة الإسلامية. فهل هذا هو السبب الرئيسي لامتعاض البابا؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن هذا لا يبرر له أن يحمّل البابا الإسلام تبعات فشل التبشير المسيحي في جذب مجرد أعداد محدودة من الناس.
إن المؤكد أن انتشار الإسلام قد تم بالوسائل السلمية والدعوية، وهذا لا ينفي استخدام القوة كإحدى وسائل الجهاد لإزالة السلطة التي تحول بين الإنسان العادي وبين الاختيار، لكن هذه القوة لم تفلح في نشر الديانة المسيحية التي كانت مواكبة للغزوات الاستعمارية، بينما نجح الإسلام في جذب الملايين من مواطني الدول الغربية لاعتناقه لا لسبب غير اقتناعهم به.
حقيقة القول في الجهاد
إن الجهاد يغطي ثلاثة ميادين هي: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس. والمعنيان الأخيران وردا في أحاديث كثيرة صحيحة ومشهورة، أما المعنى الأول وهو جهاد الناس فهو المعنى الأكثر انتشارًا وهو جهاد غير المسلمين الذي يعني عمليات القتال والحرب والذي وردت فيه آيات كثيرة وأحاديث في فضله وشروطه وضوابطه، وكانت له ممارسات في التاريخ بين المسلمين وغيرهم لا تزال أصداؤها تتردد في أسماع التاريخ ومازالت إلى يومنا هذا موضوع أخذ ورد إفراطا وتفريطا وإعجابا وشجبا فكم من أناس برروا حروبا عدوانية ومطامع دنيوية بدعوى الجهاد، وكم آخرون فرطوا في الجهاد فتقاعسوا عن ردِّ العدو ونكصوا عن مقارعة العدو فكانت النتائج وخيمة وكم حركات غير منضبطة بضوابط الجهاد شوهت سمعة الإسلام وأورثت المسلمين عنتا وضياعا.
وكم متجنٍ على الإسلام معتبرا أن الجهاد لا ينتظر مبرراً وأنه دعوة إلى القتال الدائم ضد غير المسلمين.
والحق أن مفهوم الجهاد في الإسلام ليس مرادفا دائما للقتال فالجهاد مفهوم واسع فهو دفاع الحق ودعوة إليه باللسان، وهو قد يكون أعمالاً حربية. وقد قسم ابن خلدون الحرب إلى أربعة أنواع وذلك حسب دوافعها قائلا: إن أصل جميع الحروب إرادة الانتقام وهي نوعان: النوع الأول حروب بغي وفتنة، وهي حرب المنافسة [التوسع]، وحروب العدوان التي تقوم بها الأمم المتوحشة، والنوع الثاني من الحروب هو حروب غضب لله تعالى ودينه وهي جهاد، وحروب على الخارجين عن السلطان وهي حروب للعناية بالملك كما سماها.
ومن يراجع أسباب النزول وتاريخ تطور النزاع بين الإسلام وخصومه يتأكد من أنه لا تعارض بين هذه الآيات والآيات التي تحدد هدف القتال بأنه دفاعي وأنه لا يجوز اقتطاع الآيات عن سياقها الكلي كما يحاول المستشرقون وتلاميذهم أن يفعلوه.*
وبهذا المنطق يمكن اعتبار المسيحية دين حرب إذا حكمنا عليها من خلال الفقرة 24 الواردة في إنجيل متى الإصحاح العاشر مما نسبه إلى سيدنا عيسى عليه السلام [لا تظنوا أني جئت لألقى سلاماً على الأرض ما جئت لألقى سلاما بل سيفاً].
وأما التوراة فشواهد تشريع القتال فيها أكثر من أن تحصى، على ما فيه من الصرامة وبلوغ الغاية في الشدة، مما يدل دلالة قاطعة على الفرق ما بين آداب الحرب في الإسلام ، وغيره من الأديان.
وتاريخ الأمم المسيحية في القديم والحديث شاهد عدل على رد دعواهم ، فمنذ فجر المسيحية إلى يومنا هذا ، خضبت أقطار الأرض جميعها بالدماء باسم السيد المسيح.
خضَّبها الرومان، وخضَّبتها أمم أوروبا كلها، والحروب الصليبية أشعلها المسيحيون وليس المسلمون، ولقد ظلّت الجيوش باسم الصليب تنحدر من أوروبا خلال مئات السنين قاصدة أقطار الشرق الإسلامية، تقاتل، وتحارب، وتريق الدماء وفي كل مرة كان البابوات خلفاء المسيح - كما يزعمون - يباركون هذه الجيوش الزاحفة للاستيلاء على بيت المقدس، والبلاد المقدسة عند المسيحية، وتخريب بلاد الإسلام.
أكذوبة الإكراه
وإذا كان المستشرقون الكذابون يروجون أن أغلب المسلمين الذين دخلوا الإسلام حينما تم فتح بلادهم إنما دخلوه بالإكراه، فقد جاءت لهؤلاء آلاف الفرص كي يتخلصوا من هذا الإكراه المزعوم ولكنهم لم يفعلوا بل تمسكوا بالإسلام وحاربوا دفاعاً عنه، وقدموا أنفسهم أموالهم في سبيل نصرته. فالعرب جميعاً ثبتوا على ما تركهم عليه الرسول الكريم، وحملوا الرسالة ، وبلَّغوا الأمانة كأحسن ما يكون البلاغ إلى الناس كافة، ولم يزالوا يكافحون ويجاهدون في سبيل تأمين الدعوة وإزالة العوائق من طريقها حتى وصلت إلى العالم كله.
والعقل يقول أن الدولة الإسلامية الكبرى حينما انقسمت إلى دويلات، وصار المسلمون شيعاً وأحزاباً، وتعرضوا لمحن كثيرة في تاريخهم الطويل كمحنة التتار، والصليبيين قديماً، ثم الاستعمار الغربي حديثاً، كل محنة من هذه المحن كانت كافية للمكرهين على الإسلام أن يتحللوا منه ويرتدوا عنه، ولكن الذي حدث كان مزيداً من حب الإسلام والتمسك به.
ونحن في انتظار المنطق الغربي، الذي يصفونه بالحيدة والعلمية، ليفسر لنا في الانتشار العظيم والمذهل للإسلام في الدول التي لم يدخلها مسلم مجاهد بسيفه؟.
وهل يستطيع هؤلاء أن يكذبوا وقائع التاريخ الثابتة من أن الإسلام انتشر في هذه الدول بوساطة العلماء والتجار والبحّارة، كإندونيسيا، والصين، وبعض أقطار إفريقيا، وأوروبا وأمريكا.
وإذا كان هؤلاء القوم يمنعهم تعصبهم وكراهية الإسلام من الإيمان بالحقائق المجردة فنحن نقول لهم: لقد انتشر الإسلام في هذه الدول بسماحته، وقربه من العقول والقلوب، وبساطته، ومخاطبته لفطرة الإنسان، وواقعيته، ومناسبته للزمان والمكان.
وأخيراً ماذا يقول القوم في انتشار الإسلام في بلادهم هم، رغم كل وسائل الإعلام والثقافة الجبارة التي يملكونها، والتي هي بمثابة حائط صد، ورغم المؤسسات التبشيرية الكبيرة، ورغم الحرب التي يشنونها ضدنا، ورغم ندرة ما يقوم به المسلمون من تعريف بالإسلام، ورغم حالة الهزيمة والضعف التي يعيشها المسلمون؟
مشكلتنا مع الحكومات الغربية
مشكلتنا ليست مع الإنسان الغربي، وإنما مع الحكومات والإدارات الغربية، ومشكلتنا مع الغرب بصفته الاستعمارية الاستكبارية؛ لا بصفته الإنسانية. إننا نعرف أنّ للغرب مصالح في بلادنا بما نملك من ثروات، ولنا مصالح عند الغرب فيما يملك من الإمكانات، ونحن نؤمن بتبادل المصالح وتكافؤ المصالح، ولكن لا نؤمن أن تسقط مصالحنا تحت تأثير مصالحه، وهذه هي المشكلة.
وعندما يحترمنا الغرب فإننا لا بد أن نحترمه، ولكنه إذا لم يحترمنا فمن الصعب أن نشعر بأي احترام تجاهه، وإذا أطلق علينا صواريخه وقنابله فلن نقدّم للغرب عندها باقة ورد.
وليس صحيحًا أنّ العنف نشأ في بلاد العرب والمسلمين وتم تصديره للغرب، بل إن الغرب هو الذي بدأ العنف. الغرب هو الذي خاض الحروب الصليبية ضد الشرق الإسلامي، والغرب هو الذي استعمر البلاد الإسلامية، وهو الذي استعمر بلدان العالم الثالث وسلب ثرواتها؛ ولذلك فإن بلادنا كانت تتحرك دفاعيًا، ولكن حاول أن يسلط الأنظار على العنف الذي هو رد فعل ليقدمه كفعل، ولم يحاول بطبيعة الحال أن يسلط الضوء على العنف الذي بدأه هو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*من المعلوم أن الفقهاء يقسمون الجهاد إلى جهاد الدفع وجهاد الطلب فليراجعها من أراد التفصيل