الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أدرس الطب وأنا كاره له بسبب بيئة الغربة التي أعيشها!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أنا طالب، منذ ثلاث سنوات جئت إلى ألمانيا للدراسة، وكنت في ذلك الوقت لا أفقه شيئاً في ديني، ولا أصلي، ولكني الآن اهتديت وأصبحت واعياً أكثر، كنت شابًا أطمح لدراسة الطب، ولو سئلت في ذلك الوقت لكانت الإجابة: حتى أؤمن مستقبلي وغيره، وهذا ما تربينا عليه للأسف، تربينا على أن الحياة الكريمة ستكون من خلال كلية من كليات القمة.

قصتي طويلة بعض الشيء، لكني سأحاول تلخيصها: في أول سنة لي في ألمانيا درست اللغة الألمانية، وفي السنة الثانية درست السنة التحضيرية، وبدأت طريقة تفكيري تتغير، وبدأت أقول إنني لا أريد دراسة الطب، وأريد تخصصًا آخر، وهو العلاج الطبيعي، وكان السبب الأول هو كره الغربة والبعد عن الأهل، والأهم من ذلك كره المكان والمجتمع والثقافة التي أعيش فيها.

أخبرت أهلي برغبتي، وقالوا: لقد خدعتنا، قلت إنك ذاهب لدراسة الطب، ويجب أن تبر أهلك.. وغيره من هذا الكلام. وأصبحوا يكرهونني، ويقولون بأن تفكيري غبي؛ لأنني لا أريد دراسة الطب، قلت لهم: بر الوالدين ليس له علاقة في اختيار التخصص، وقدمت على دراسة العلاج الطبيعي؛ وبسبب خوفي من عصيان الله، قدمت أوراقي في جامعة واحدة فقط للطب، واستخرت ربي ووكلته أمري، علمًا أن نسبة قبولي كانت ضعيفة جداً، لكني حصلت عليه، ومع ضغط الأهل وغيره قررت دراسة الطب.

أنا الآن في الأسبوع الرابع، وكاره للجامعة، ليس بسبب الدراسة، إنما بسبب البيئة التي أنا فيها، فكرت في تركها، لكني أخاف بذلك أن أعصي الله. رغبت في كتابة القصة كاملة، لكن لا يوجد مكان لتكملتها.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ زياد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً بك -أخي الكريم- في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله الكريم أن يبارك فيك، وأن يحفظك من كل مكروه وسوء، وأن يقدر لك الخير حيث كان، إنه جواد كريم.

ونحب أولاً أن نحمد الله إليك تلك العودة الحميدة إلى تدينك، والمحافظة على صلاتك، وهذا والله هو الخير، وتلك هي السعادة، ونحن نحثك على الاستزادة من الطاعة وصحبة الأخيار من الأصحاب، فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية.

أما بخصوص ما تفضلت به: فإننا نتفهم طبيعتك النفسية، وندرك أن الحالة التي تمر بها هي حالة صد عن دراسة الطب لأسباب بعضها فيه حق، وبعضها فيه غبش، وكذلك نتفهم طبيعة أهلك، والذين عاشوا على أمل رجوع ولدهم طبيباً بارعاً يفخرون به، وندرك أن قولك لهم كان بمثابة الصدمة العنيفة عليهم، ونود منك -أخي- أن تنتبه إلى أن المبررات التي سقتها أكثرها مرتبط بالنفسية المتأثرة بالبيئة، وليست مرتبطة بالدراسة، ولابد من التأكيد على ذلك حتى لا يختلط الأمران عليك.

أخي الكريم: البيئة التي تدرس فيها حالياً لا شك أنها بيئة دافعة للفساد، أو ميسرة له، ولكن أيضاً أنت قد عشت داخلها وقد فهمت إيجابياتها وسلبياتها، ويمكنك وضع خطة منهجية لتجاوز تلك المرحلة، وتحقق حلم أهلك، وحلمك أيضاً بأن تكون طبيباً يداوي الله على يديك المرضى، ويخفف الله على يديك آلامهم، ويحقق الله على يديك أمانيهم، وتلك والله غاية عظمى تستحق التعب من أجلها.

أخي الكريم: بالطبع إن تحقيق آمال أهلك ووالديك هو لون من ألوان البر المشروع، لكن دعنا نناقش الكراهية النفسية التي اعترتك وأنت في أسبوعك الرابع، ودعنا نخبرك بعدة أمور:

1- من الطبيعي لمن اغترب عن أهله أن تضطرب نفسيته، ولا شك أن اضطراب النفسية سيرتبط بالدراسة، والسفر، والبيئة بصورة أو أخرى، فالعقل الباطن دائماً ما يرسل رسائل للمخ بأن سبب تلك المعاناة هو السفر الذي سببه الرئيس دراسة الطب، فتبدأ برمجة المخ على كره الدراسة التي صرفتك عن محيطك، ويبدأ تعضيدها بأمور أخرى شرعية كالبيئة أو ما شابهه.

2- من عظم عنده الغاية هانت عليه الوسيلة؛ هذه قاعدة نفسية -أخي الكريم-، لقد أردت دراسة الطب بلا نية دافعة، فلو تغيرت النية وصارت شرعية، وعرفت مآل تلك الدراسة وفضلها لكانت دافعاً قوياً لك.

دعنا نخبرك -أخي- أن دراسة الطب من أشرف العلوم بعد علوم الشريعة، فيكفيها أن في تعلمها إنقاذاً لحياة البشر، وتخفيفاً لآلامهم، وقد روى ابن أبي حاتم الرازي في (آداب الشافعي ومناقبه) عنه، أنه قال:
[إنما العلم علمان: علم الدين، وعلم الدنيا، فالعلم الذي للدين هو: الفقه، والعلم الذي للدنيا هو: الطب]، فانظر كيف كان الطب عند الفقهاء في المرتبة الأولى من علوم الدنيا، حتى أثر عن بعض السلف قوله: (لا تسكنن بلدًا لا يكون فيه عالم يفتيك عن دينك، ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك).

ولا عجب فقد قال الشافعي -رحمه الله-: لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطب، إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه، وقد كان يتلهف على ما ضيع المسلمون من الطب، ويقول: ضيعوا ثلث العلم، ووكلوه إلى اليهود والنصارى.

لذا إذا جددت النية في التعلم، ونويت أن تداوي بهذا العلم المرضى وتخفف آلامهم، فإن كل دقيقة تمر عليك في هذه الغربة لك فيها أجر، ولك بكل شفاء مريض أجر، وأنت في عبادة -يا أخي- ما دمت في هذا العلم طالباً كنت أو طبيبًا.

3- بعض القرارات التي نتخذها اليوم بيسر قد تكون آلامها في الغد كبيرة، والتراجع عنها مستحيل، ولذا لا نريدك أن تتعجل وقد صليت الاستخارة، ونحن نعلم قطعاً أن صلاة الاستخارة لا يعقبها إلا الخير.

إننا نتمنى عليك -أخي- أن تجدد النية، وأن تجعلها لله خالصة، وأن تجمع بين هذه النية ونية بر والديك، وإدخال السرور عليهما، وستجد من وراء ذلك الخير الكثير في دنياك وآخرتك.

أخي الكريم: لا يعني مما مضى من وصيتنا لك بدراسة الطب بنية شرعية، وبراً بوالديك أن يكون هذا على حساب دينك، أو تجاوزًا لحدود الله عز وجل، بل نحثك وأنت متمسك بدينك عاض على ذلك، باحث عن كل وسيلة شرعية لتحقيق هذا الهدف، وإلا فكل غاية مهما عظمت تقودك إلى ما حرم الله تعالى، أو تصرفك عن دينك فلا حاجة فيها.

وإنا نسأل الله الكريم أن يقويك، وأن يسعدك، وأن يقدر لك الخير حيث كان، وأن يرضيك به، والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأكثر مشاهدة

الأعلى تقيماً