الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بسبب الخروج المتكرر أصبح أهلي يتشاجرون معي كثيراً!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا شاب عمري 22 عاماً، حياتي تقتصر على الذهاب من بيتي إلى عملي والعودة منه، -والحمد لله- يعلم أهلي أنه ليس لدي أي سلوكيات خاطئة أو أصدقاء سوء.

منذ ثلاث سنوات، كنت ألزم المنزل كثيرًا، بسبب مظهري الناتج عن السمنة، وبعد أن فقدت وزني أصبحت ذا مظهر جميل جدًّا، وبدأت أخرج كثيرًا، أمَّا الآن، فأنا أتشاجر بشكل يومي مع أهلي، بغض النظر عن سبب الخروج من المنزل، حتى إذا جلست معهم نتشاجر، وإذا انسحبت إلى غرفتي نتشاجر أيضًا، حيث يأتون إلى غرفتي ويختلقون المشاكل، وإذا خرجت من البيت لتجنب المشاكل، يقولون عني إنني شاب "منفلت"، رغم أنهم يعلمون جيدًا، -والحمد لله- أنه ليس لدي أي سلوكيات تشبه ما لدى بعض الشباب، والآن أصبحت أمي تُظهر غضبها تجاهي.

أرجوكم أرشدوني.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الرحمن حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نرحب بك في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يفرّج همك، ويشرح صدرك، ويهديك إلى ما فيه الخير والطمأنينة.

لقد قرأنا رسالتك بتأنٍّ، ونشعر بما تمرّ به من مشاعر مختلطة بين الإنجاز الشخصي، والسعي لإرضاء أهلك، والتحديات التي تواجهها في علاقتك معهم، ونريد أولًا أن نُثني على صراحتك، وحرصك على طلب النصح والإرشاد؛ فهذا يدل على نضجك ووعيك، ورغبتك الصادقة في إيجاد حلول مُرضية، فالأمر الذي تمرّ به ليس سهلًا، لكن -بإذن الله- يمكن التعامل معه بحكمة وصبر.

أولًا: من الطبيعي أن تشعر بشيء من التوتر أو الحيرة في هذا العمر؛ فأنت في مرحلة انتقالية من الشباب إلى النضج، وهي فترة يواجه فيها الإنسان تحديات عديدة، منها بناء هويته الشخصية، وإيجاد توازن بين علاقاته العائلية والاجتماعية.

لقد لاحظنا من حديثك أنك عانيت سابقًا من مشاعر داخلية تتعلق بمظهرك، لكنك تغلبت عليها بفضل الله، وحققت إنجازًا عظيمًا بفقدان الوزن؛ مما جعلك أكثر ثقة بنفسك وجرأة في التفاعل مع العالم الخارجي، وهذا أمر يستحق الإشادة، لكنه ربما أحدث تغييرًا في نمط حياتك، ولم يتأقلم أهلك معه بعد، فأحيانًا التغييرات الإيجابية في حياتنا قد لا تُفهم بالشكل الصحيح، خاصة من أقرب الناس إلينا؛ مما قد يؤدي إلى سوء تفاهم أو احتكاكات، كما يحدث الآن بينك وبين أهلك، ولكن دعنا ننظر إلى الأمور من منظورين، من منظورك أنت، ومن منظور أهلك.

1. منظورك أنت: يبدو أنك تبذل جهدًا كبيرًا لتعيش حياتك بشكل طبيعي وصحيح، بعيدًا عن المحرّمات أو الأخطاء التي يقع فيها البعض، ولكن تشعر أن أهلك لا يمنحونك المساحة الكافية، أو الثقة التي تستحقها؛ مما يسبب لك إحباطًا أو توترًا، ولديك رغبة طبيعية ومشروعة في إثبات ذاتك واستقلاليتك، لكنك ربما لم تجد الطريقة الأنسب لتحقيق ذلك، دون أن تتأثر علاقتك بأهلك.

2. منظور أهلك: قد يكون أهلك قلقين بسبب هذا التغيّر المفاجئ في حياتك (مثل الخروج المتكرر)، خاصة أنهم اعتادوا على وجودك الدائم في المنزل، أحيانًا يدفع الخوف الزائد الوالدين إلى المبالغة في الرقابة أو النقد، حتى لو كانوا يعلمون أن أبناءهم على الطريق الصحيح، وقد يكون هناك سوء فهم، أو فجوة في التواصل بينك وبينهم، تؤدي إلى تضخيم المشكلات الصغيرة، وتحويلها إلى خلافات أكبر.

ثانيًا: خطوات عملية لتحسين الوضع: استنادًا إلى ما سبق، إليك بعض الخطوات التي قد تساعدك على تحسين علاقتك بأهلك، وبناء جسر من الثقة والتفاهم:

1. الحوار الهادئ والصادق: اختر وقتًا مناسبًا للجلوس مع والدك أو والدتك، وتحدث إليهم بهدوء واحترام، عبّر عن مشاعرك بوضوح، وبيّن لهم أنك تُقدّر حرصهم وخوفهم، لكنك ترغب في فهم ما يزعجهم تحديدًا، استخدم عبارات تبني الثقة، مثل: "أنا أقدّر رأيكم"، أو "أنتم تعرفون أنني دائمًا أستمع لنصائحكم".

2. إظهار الالتزام بالمسؤوليات: بيّن لهم أنك جاد في حياتك، ملتزم بعملك، وتفكّر في مستقبلك بعقلانية، مشاركتك لأهدافك وطموحاتك تعزز ثقتهم بك.

3. ضبط النفس عند الخلاف: إذا شعرت أن النقاش بدأ يتحوّل إلى جدال، انسحب مؤقتًا بطريقة محترمة، وقل مثلًا: "دعونا نؤجل الحديث إلى وقت نكون فيه أكثر هدوءًا".

4. البرّ والصبر: تذكّر أن برّ الوالدين من أعظم القربات، حتى لو شعرت بالظلم أحيانًا، قال تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُواْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا) [الإسراء: 23] وأكثر من الدعاء لهم، واطلب من الله أن يرزقك الصبر والحكمة.

5. الاستعانة بوسيط: إذا تعذّر التواصل المباشر، يمكنك الاستعانة بشخص مقرّب تثق به ويثقون به، ليساعد في تقريب وجهات النظر.

6. تنظيم الوقت: حاول إيجاد توازن بين وقتك في الخارج ووقت العائلة، خصّص أوقاتًا لقضاء لحظات دافئة معهم، مثل تناول الطعام أو مشاهدة برنامج مشترك.

7. كظم الغيظ: قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] فتحلَّ بالصبر والرحمة، خاصة في التعامل مع الوالدين.

8. المبادرة بالصلة: قال ﷺ: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها) [رواه البخاري] حتى إن شعرت بعدم الفهم من جانبهم، كن أنت المبادر.

9. تجاهل كلام الناس: قال الإمام الشافعي: "من ظن أنه يسلم من كلام الناس فهو مجنون، قالوا عن الله ثالث ثلاثة، وقالوا عن محمد ساحر مجنون" فليكن رضا الله وبر الوالدين هو غايتك.

10. تذكّر أبيات المقنع الكندي التي تذكّرنا بقيمة التسامح والعفو، خصوصًا مع الأقربين:
وإن الذي بيني وبين بني أبي ... وبين بني عمي لمختلفٌ جدًا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

11. العبادة والتقرب إلى الله: اجعل لك وردًا من القرآن، وداوم على الصلاة والقيام؛ فذلك يقوي النفس ويورث الطمأنينة.

12. الإكثار من الاستغفار والصلاة على النبي ﷺ، قال الله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] وقال ﷺ: (إذًا ‌تُكْفَى ‌همّك، ويغفر لك ذنبك).

13. تذكّر أن الصبر والحكمة هما مفتاحا النجاح في أي علاقة، وخاصة مع الوالدين.

نسأل الله أن يوفقك، ويصلح حالك وحال أهلك، ويجعل حياتك مليئة بالبركة والرضا.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً