الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أطمح لتغيير حال عائلتي وأخشى من الشعور بعدم الرضا عن الله!

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرًا، وبارك فيكم، وأعانكم على الخير.

أنا فتاة ذات طموح عال جدًا، رغم أن حالتي المادية لا تسمح لي بتحقيق أي شيء من طموحاتي، أو حتى إكمال الجامعة، إلا أنني لا أنقطع عن الدعاء والرجاء من الله أن ييسر أمري من حيث لا أدري.

وأنا ملتزمة في صلاتي، وقيام الليل، وكل ما يعنيني هو التقرب إلى الله أكثر، ومع ذلك لا أستطيع فهم المشكلة لديّ؛ فأنا أطمح لتغيير حال عائلتي للأفضل، لكني دومًا أشعر بوجود خلل، أو أن نيتي ليست صحيحة، وأنني لا أرضى بما كتبه الله لي، ولهذا لم ييسر لي أمري.

أدعو الله منذ فترة طويلة، رغم أن الأمور ضاقت كثيرًا عليّ وعلى أمي، وأُحس أن مشكلتي تكمن في عدم رضاي بما كتبه الله لي واختاره، وأنني ليس لي حيلة سوى انتظار فرج الله.

وكلما أتقرب إلى الله، يزداد إصراري على السعي أكثر والصبر أكثر، فلا أعلم أين الخلل فيّ: هل هو في دعائي، أم في نيتي، أم في رضاي عمّا أنا فيه وما كتبه الله لي؟

رغم أنني أشعر بالرضا عن حياتي، وأطمح للأفضل، إلا أنه لا يوجد شيء يساعدني في ذلك، ولا يوجد من يعينني ماليًا، فأنا البكر وأبي لا ينفق علينا، وراتب إخوتي لا يكفي لنفقة أسبوع واحد، وأخاف أن يأخذني طمع الدنيا فينسيني الآخرة، ولا أعرف كيف أستقر نفسيًا في السعي وراء هدفي؛ بسبب شكّي في نيتي، أو بسبب قناعتي بأن الله كتب لي هذا، وعليّ الرضا، وأن لا أرفع سقف توقعاتي بسبب الوضع المادي.

هذا الأمر يسبب لي تعبًا نفسيًا شديدًا، لأنني لا أعرف أين تكمن المشكلة، ويذهب صبري كله، فأرجو منكم الرد بإجابة تذهب عني هذا الثقل.

وشكرًا جزيلًا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ نسرين حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أتفهم تمامًا حجم المعاناة التي تشعرين بها، والتحديات الكبيرة التي تواجهكِ، خصوصًا مع طموحكِ العالي ورغبتكِ في تحسين وضع أسرتكِ، هذه المشاعر المتضاربة بين الأمل والسعي، وبين الرضا بما قسم الله والتطلع إلى الأفضل، هي جزء من رحلة المؤمن في هذه الحياة، دعيني أُوضح لكِ بعض الأمور التي قد تذهب عنكِ هذا الثقل -بإذن الله-.

الرضا والقناعة لا يُعارضان السعي والطموح، من المهم أن نُدرك أن الرضا بقضاء الله وقدره لا يعني أبدًا الاستسلام لليأس، أو التوقف عن السعي والطموح، بل هو حالة قلبية، تُعنى بقبول ما كتبه الله في الماضي والحاضر، مع الإيمان بأن المستقبل بيد الله، وهو القادر على تغيير الأحوال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز" [رواه مسلم]، هذا الحديث العظيم يجمع بين السعي الحثيث والتوكل على الله.

طموحكِ والنية الصالحة لا تتعارض مع الرضا عندما تطمحين لتغيير حال عائلتكِ للأفضل، هذه نية مباركة وطيبة، ولا تتعارض أبدًا مع الرضا، بل هي من الإحسان والتكافل الذي حث عليه الإسلام، ورغبتكِ في نفع أهلكِ هي نابعة من قلب سليم، والله يحب أن يرى عبده يسعى ويطمح في الخير، والمشكلة التي تشعرين بها ليست في طموحكِ، بل ربما في سوء فهمكِ لمفهوم الرضا، أو في وسوسة الشيطان ليثبط همتكِ.

أين يكمن الخلل إذًا؟ قد لا يكون هناك خلل في نيتكِ، أو دعائكِ بالمعنى السلبي، ولكن قد تكون هناك بعض الأفكار التي تحتاج إلى إعادة تأطير:

- أولًا: في فهم الرضا، فالرضا الحقيقي هو أن تكوني راضية عن الله كإله ومدبر لأموركِ، ومؤمنة بحكمته وعدله في تدبير كونه، وأن تدبيره لكِ هو خير لكِ، وإن خفي عنكِ وجه الحكمة، أما السعي لتغيير الواقع نحو الأفضل: فهو من صميم التكليف والعبادة، لو لم يكن السعي مطلوبًا، لما أمرنا الله بالعمل والجهاد.

- ثانيًا: قد تشعرين بالضيق لأن الدعاء لم يُستجب بعد المدة التي تتوقعينها، تذكري أن الله يستجيب للدعاء بثلاث طرق: إما أن يُعجل لكِ الإجابة، أو أن يدخرها لكِ في الآخرة، أو أن يدفع عنكِ بها سوءًا، وكلها خير، والصبر على الدعاء هو عبادة في حد ذاتها.

- ثالثًا: الشك في النية يكون من وسوسة الشيطان ليحرمكِ أجر نيتكِ الطيبة، طالما أن قصدكِ نفع أهلكِ وطلب الرزق الحلال، فنيتكِ صافية -بإذن الله-، واحذري من الإفراط في تدقيق النوايا حتى لا يصيبكِ العجز.

خطوات عملية لتهدئة نفسكِ وتعزيز سعيكِ:
1- واظبي على صلاة الاستخارة في كل أمر تُقدمين عليه، أو تفكرين فيه، فالله سيختار لكِ الخير حيث كان.

2- ادعي بقلب حاضر موقن بالإجابة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة" [رواه الترمذي]، وتذكري أن الله لا يرد يداً رفعت إليه خائبة.

3- الأخذ بالأسباب، فالرضا لا يعني التواكل، فكري في أي سبيل ممكن لتحقيق طموحكِ، حتى لو كان صغيرًا في البداية، وذلك من خلال:
- هل يمكنكِ تعلم مهارات جديدة عبر الإنترنت، دورات مجانية، فيديوهات تعليمية؟ مثل: اللغات، البرمجة، التصميم، الكتابة، التسويق الإلكتروني، هذه المهارات قد تفتح لكِ أبوابًا للعمل الحر أو عن بعد.

- هل هناك فرص عمل بسيطة يمكن أن توفر لكِ دخلًا، وتساعدكِ على الادخار لبداية تحقيق أهدافكِ؟

- هل يمكنكِ التطوع في مكان ما لاكتساب الخبرة، وتكوين علاقات قد تفتح لكِ آفاقًا مستقبلية؟

4- في كل صباح، جددي نيتكِ بأن سعيكِ هو عبادة لله، وأنكِ تسعين لرفع الضرر عن أهلكِ، وتحقيق الاكتفاء الذاتي لهم ولوجه الله تعالى، هذه النية الصادقة تبارك في جهدكِ.

5- اقرئي عن قصص الأنبياء والصحابة والصالحين، الذين مروا بابتلاءات شديدة وضيقات مالية، وكيف صبروا وتوكلوا على الله، وفتح الله عليهم من حيث لا يحتسبون، سيرة النبي أيوب -عليه السلام-، وكيف صبر على الابتلاء، وسيرة النبي يوسف -عليه السلام-، وكيف تحول من السجن إلى ملك مصر، فيها الكثير من العبر.

6- لا تُحملي نفسكِ أكثر من طاقتها، وكوني واقعية في خططكِ، وابدئي بخطوات صغيرة قابلة للتحقيق، والتدرج في الأهداف يخفف الضغط النفسي، وخفضي سقف التوقعات.

7- اليقين بالفرج بعد الشدة، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح: 5-6]، هذه الآية تبعث الأمل في القلوب، وتؤكد أن كل ضيق سيتبعه فرج، وأن اليسر ملازم للعسر.

8- ساعدي من هو أضعف منكِ، ولو بابتسامة، أو كلمة طيبة، أو قضاء حاجة بسيطة، فمن فرج عن أخيه كربة، فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، البركة تأتي من مساعدة الآخرين.

9- لا تستسلمي للأفكار السلبية التي تقول إن الله لم ييسر أمركِ بسبب عدم رضاكِ، فالله أرحم بكِ من أن يؤاخذكِ على مشاعر طبيعية تنتاب الإنسان، وثقي بأن الله يريد لكِ الخير، وربما هذا التأخير فيه حكمة لا تعلمينها، قال تعالى في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء" [رواه البخاري ومسلم)]، أحسني الظن بربكِ.

خلاصة القول: أنتِ لستِ غير راضية بما قسم الله لكِ، بل أنتِ راغبة في الارتقاء بنفسكِ وأهلكِ، وهذا من أجمل ما يكون في قلب المسلمة، استمري في دعائكِ، فهو صلة بينكِ وبين ربكِ، واستمري في سعيكِ، ولو كان بخطوات صغيرة جدًا، كوني صبورة، وتذكري أن دوام الحال من المحال، وأن رب ضارة نافعة، قد يكون هذا الابتلاء هو الطريق الذي سيصقل شخصيتكِ، ويجعل منكِ امرأة عظيمة في المستقبل، يعين الله بها أهلكِ والكثير من الناس.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يُذهب عنكِ هذا الثقل، وأن يرزقكِ الطمأنينة والسكينة، وأن يفتح لكِ أبواب رزقه من حيث لا تحتسبين، وأن يُيسر لكِ كل خير، ويُحقق لكِ طموحاتكِ في الخير، ويرزقكِ بر الوالدة، وأن يجعل النجاح حليفكِ في الدنيا والآخرة، ولا تفقدي الأمل أبدًا، فالله قريب مجيب الدعوات.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً