الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

انتقادات الناس لي دفعتني إلى اعتزالهم وكرههم فهل من نصيحة؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جزاكم الله خيرًا وصبركم علينا.

أعانى من مشاكل واضطرابات نفسيه كبيرة جدًا، وصراعات بيني وبين نفسي وبين الناس، أكره البشر والمجتمع وأحب اعتزالهم فلا أختلط معهم إلا للضرورة فقط، كقضاء المصالح الدنيوية، ولكن معظم الأوقات أمضيها وحيدًا، أصبحت ضعيفًا جدًا، ولا أتناول الطعام إلا قليلاً بعدما كنت شابًا نشيطاً قويًا ورياضيًا.

معاناتي ومشكلتي مع الآخرين: هؤلاء البشر أغلبهم لا يفكر إلا كما يفكر البهائم: بالأكل، والشرب، والنوم، والزواج، والجماع، وتربية الأطفال، وتغذيتهم، لا يفكرون في طلب علم نافع أو تدبر القرآن وفهمه.

هؤلاء البشر سواءً كانوا أقارب أو معارف أو حتى غرباء عني، لم أجد منهم أحدًا ينصحني، وجدتهم دائمًا يعيرونني وينتقدونني نقدًا هدامًا مدمرًا، حتى أنه وجه لي كلامًا جارحًا جدًا لم أسمع مثله في حياتي كلها، آذاني أذىً كبيرا بطريقة وبأسلوب بشع.

مع العلم أنني اعترفت بالخطأ في الأمر الذي يزعمون أنهم ينصحونني به، وكنت أطلب منهم الحل لإصلاح مشكلتي، ولكن للأسف لم يقدموا سوى الكلام الجارح.

وأنا جالس بينهم أتأمل في نظراتهم الخبيثة التي تشعرني دائمًا بالدونية، وأنني شخص حقير، ومع هذا كله يزعمون أنهم "ينصحونني" - فسبحان الله -.

مع العلم أنهم كما انتقدوني في أمور دنيوية تخصني، كذلك انتقدوني في أمور دينية، أنا أحب النقد البناء ورحم الله من أهدى لي عيوبي.

والصراعات التي ذكرتها على وجه الإجمال سببت لي مشاكل دنيوية ودينية.

ملخص تساؤلاتي: أنا شاب في مقتبل حياته، عمري 21 عامًا، أحتاج إلى نصيحتكم، ورحم الله من أعان المبتلى، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

شكرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ ابراهيم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبا بك - أخي الكريم - وردا على استشارتك أقول:

عليك أن تعرف الغاية التي من أجلها خلقنا الله سبحانه، وهي عبادته سبحانه وتعالى لا شريك له، كما قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)، فإذا عرفت ذلك فيجب عليك أن تسعى لتحقيق هذه الغاية، وذلك بفعل ما أمرك الله به واجتناب ما نهاك عنه.

جميع الاضطرابات النفسية التي يعاني منها الإنسان يمكن حلها من خلال الإيمان بالله سبحانه، والذي يكتسب من خلال كثرة العمل الصالح، إذ بالإيمان والعمل الصالح تستجلب الحياة الطيبة كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

طمأنينة القلب وراحة النفس تكمن في كثرة ذكر الله سبحانه، وهذه الطمأنينة لا تجعل رضوان الله هو الغاية، يقول عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

قوة الإيمان تجعل الإنسان يحب لإخوانه ما يحبه لنفسه، ففي الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه)، وفي رواية: (من الخير).

من صفات المؤمن أنه يألف ويؤلف ويخالط الناس ويصبر على أذاهم، يقول - عليه الصلاة والسلام -: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)، وورد في الحديث: (المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).

هنالك فرق بين مخالطة الصالحين من طلبة العلم وغيرهم، وبين مخالطة العامة، فمخالطة الصالحين كلها خير، وأما مخالطة عامة الناس فأكثرها لغط وإهدار للأعمار، لأن أكثر حديثهم على أمورهم الدنيوية، ومع هذا سيبقى الإنسان محتاجا لخلطتهم.

من صفات المؤمنين الرحمة بعباد الله، كما قال الله سبحانه: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، فأوصيك أن تخرج ما في قلبك من الكره لعباد الله، وأن تجعل الأصل هو المحبة والرحمة، وإن كان ذلك يتفاوت بتفاوت صلاحهم، وقد يجتمع في القلب حب وبغض للشخص الواحد، فحبه كونه يطيع الله وبغضه كونه يقع في بعض المعاصي.

قولك: (هؤلاء البشر سواءً كانوا أقارب أو معارف أو حتى غرباء عني، لم أجد منهم أحدًا ينصحني وجدتهم دائمًا يعيرونني وينتقدونني نقدًا هدامًا مدمرًا)، في هذا الكلام تعميم، وهذا غير صحيح، بل نابع من نظرتك السوداوية لمن حولك، فلا يزال الخير في الناس و- لله الحمد والمنة - وعليك أن تطلب النصح من الصالحين وستجد - إن شاء الله - مبتغاك.

عليك أن تتقبل الناس على ما هم عليه، فطباعهم مختلفة وأساليب تعاملهم مع الآخرين مختلفة، كذلك وعليك أن تتعامل مع الناس بأخلاقك لا بأخلاقهم.

كلام الناس فيك منه ما هو واقع ومنه ما هو غير واقع، وعليك أن تسمع الكلام بهدوء، وإن كان بأسلوب جارح فما كان منه حقا فعليك أن تتقبله وتصلح من نفسك، وما كان غير واقع فلا تلتفت إليه لأنه لا يضرك، ولك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إسوة حسنة، فلقد اتهمه الناس بأنه ساحر، وأنه إنما يعلمه بشر، وأنه إنما يريد الدنيا وغير ذلك من التهم، وبأسلوب جارح جدا، ومع هذا لم يعر كلامهم أي اهتمام كونه كذب.

عليك أن تهتم بتنمية مهاراتك وقدراتك، وعليك أن تكون متزنا في حياتك الدينية والدنيوية، فالإنسان لم يخلق للعبادة فقط وإنما ليعمر هذه الحياة، كذلك صحيح أن العاقل يجعل حياته كلها عبادة سواء كان العمل الذي يقوم به من أعمال الدنيان أو من أعمال الآخرة، وذلك بالنية الحسنة والاعتدال في الأمرين هو المطلوب، فلا تغلب جانبا على الآخر، والأصل في هذا قوله - عليه الصلاة والسلام -: (إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولزوجك عليك حقا ولزورك ـ ضيفك ـ عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه).

عليك بصحبة الأخيار ومجانبة رفقاء السوء لقوله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ)، وحين يكون المنحرفون في النار يقولون:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، ويقول المؤمن يوم القيامة حين لا يرى الصديق المنحرف في الجنة فيحاول أن ينظر في حاله: (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).

لقد حث - عليه الصلاة والسلام - على مرافقة الصالحين فقال: (لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وضرب مثلا للجليس الصالح والجليس السوء فقال: (إِنَّمَا مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالحِ والجَلِيسِ السّوءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِير، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل)، ويقال في المثل: الصاحب ساحب.

اجتهد في تقوية إيمانك من خلال كثرة العمل الصالح، فذلك سيجلب لك الحياة الطيبة كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

أكثر من تلاوة القرآن الكريم، وحافظ على أذكار اليوم والليلة، فذلك سيجلب إلى قلبك الطمأنينة كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

الزم الاستغفار وأكثر من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك من أسباب تفريج الهموم، يقول - عليه الصلاة والسلام -: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقال لمن قال له أجعل لك صلاتي كلها: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ).

نسعد بتواصلك ونسأل الله لك التوفيق والسعادة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً