الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تنتابني مخاوف وأحمل الأمور فوق طاقتها، فما علاج ذلك؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في البداية أشكركم على جهودكم الوفيرة في مساعدة الآخرين، وأسأل الله سبحانه أن يجزيكم جنات الفردوس.

أعاني من قلق وخوف يتفاوت من حين لآخر، وشكوك وتضخيم الأمور مما أراه من فقر وجوع وحروب وقتال، وأعلم يقيناً أن هناك رحمانًا أرحم من عباده بهم، وأحاول دائماً أن أقنع نفسي بهذا الشيء، ولكن أجد صعوبة في الاقتناع وتضخيم الأمور والتهويل.

مثال: أنا شخص شغوف ومحب شديد للمعرفة والانخراط بالمواضيع، حتى وإن كانت تافهة، ولكن أُحملُها فوق طاقتها.

أشعر دائماً بالذعر من الشكوك، وكأن هناك شخصا يقول لي هذا الصحيح، وشخصا آخر يقول لي هذا باطل، وتنتابني تخيلات سلبية وخوف من خسران حبيب أو شخص قريب.

مع العلم أني مواظبٌ عل الصلوات الخمس وعمل الصالحات، ولا أهجر القرآن ولا صلة الرحم، وبارً بوالدي، وإن كان هذا ابتلاء من الله فأنا راض به.

أعانكم الله على مساعدتي، وهل يجب علي أن أستشير طبيبا مختصا؟

شكراً لكم.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أسأل الله لك التوفيق والسداد.

العلة التي تعاني منها لا أراها مشكلة كبيرة، غالبًا الأمر يتعلق بشخصيتك، وأن لديك بعض دوافع القلق والوسوسة والمخاوف هي التي تجعلك تُضخّم بعض الأمور البسيطة، والذي يظهر لي أيضًا أنك تُشخصن الأمور، بمعنى: حتى الأشياء العامة قد تراها من منظور أنها ذات وقْعٍ خاصٍّ على شخصك الكريم، هذه سماتٌ في الشخصية وليست حقيقة أمراضًا أو حتى ظواهر نفسية.

فأنا أقول لك: يجب أن تُحقر هذا النوع من الفكر، ويجب أن تضع في الطبقات العُليا من تفكيرك الأشياء المهمّة، حاول أن تُحسن إدارة وقتك، أن تُحدد أسبقياتك، أن تُحدد أهدافك، والأهداف دائمَا نُقسِّمها إلى أهداف آنية، وأهداف متوسطة المدى، وأهداف بعيدة المدى، ولكلِّ نطاق زمني وأسس من أجل التطبيق وتوفير الآليات التي تُوصل الإنسان إلى أهدافه وغاياته.

إذًا – أخي الكريم – من المهم جدًّا أن تُحدد هذه الأهداف، وقطعًا حُسن إدارتك لوقتك – كما ذكرتُ لك – واجتهادك في دراستك، والحمد لله تعالى أنت مواظب على صلواتك وتلاوة القرآن وتصل الرحم وبارًّا بوالديك، أسأل الله تعالى أن يزيدك من هذا الخير، لا شك أن ذلك سوف يُساعدك كثيرًا على الاستقرار النفسي، ويزيل عنك -إن شاء الله- شوائب القلق والوسوسة والمخاوف التي ذكرتها في رسالتك السابقة.

ممارسة الرياضة أيضًا تُساعد كثيرًا في التخلص من الطاقات السالبة.

تناول أحد الأدوية البسيطة المضادة لقلق المخاوف والوسوسة سيكون مفيدًا جدًّا لك، هنالك عقار يُسمَّى (فافرين) واسمه العلمي (فلوفكسمين)، دواء سليم وبسيط وفاعل وغير إدماني، لو تناولته بجرعة خمسين مليجرامًا ليلاً لمدة عشرة أيام، ثم جعلتها مائة مليجرام ليلاً لمدة شهرين، ثم خمسين مليجرامًا ليلاً لمدة أسبوعين، ثم خمسين مليجرامًا يومًا بعد يومٍ لمدة أسبوعين آخرين، ثم تتوقف عن تناوله؛ أعتقد أن ذلك سيكون كافيًا جدًّا.

وإذا أردتَّ أن تتواصل معنا في مستشفى الصحة النفسية بمؤسسة حمد -إذا كنت مقيمًا بدولة قطر- فيمكن أيضًا أن يقوم أحد الأطباء بفحص حالتك، وهذا يحتاج منك لتحويل من أحد المراكز الصحية، لكن من وجهة نظري أن الأمر أمر بسيط جدًّا إذا طبَّقت ما ذكرناه لك، وهذا سوف يكون كافيًا. دائمًا نحقّر الفكر السلبي الغير منطقي والغير واقعي، ونستبدله بأفكار ومشاعر وأفعال تكون أكثر فائدة وإيجابية.

بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، وبالله التوفيق والسداد.
________________
انتهت إجابة د. محمد عبد العليم استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان
وتليها إجابة د. عقيل المقطري المستشار الشرعي والتربوي.
_________________
فمرحبا بك أيها الأخ المبارك، وردا على استشارتك أقول:
لعل ما عندك ناتج عن حبك للحصول على الخير وخوفك من وقوع الشر، وهذه حساسية شديدة تحدث في بعض النفوس بسبب كثرة الحوادث التي يراها الشخص.

لا بد أن تكون موقنا أن كل شؤون الكون تسير وفق قضاء الله تعالى وقدره، ولا يتخلف شيء عن ذلك، ولا يستطيع الإنسان أن يتحكم بذلك مهما بذل؛ لأن العبد وإن كان يشاء إلا أن مشيئة الله تعالى هي التي تنفذ، كما قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).

ما تجده في نفسك من أصوات متناقضة هي نوع من وساوس الشيطان، فاحذر من الإصغاء إليها أو السماح لها بالدخول إلى عقلك؛ بل يجب أن تحتقرها وتقطعها فور ورودها، مع الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والقيام من المكان الذي أتتك وأنت فيه، مع ممارسة أي عمل يلهيك عنها وهذا أمر في غاية الأهمية.

عليك أن تعمل بالأسباب التي توصلك إلى مبتغاك وتدفع عنك ما تكره دون مبالغة في القلق؛ فالعمل بالسبب لا ينافي التوكل على الله تعالى، وعليك أن تكون محسنا للظن بربك سبحانه وتعالى، فالتفاؤل خلق حسن كان يحبه نبينا عليه الصلاة والسلام.

المكاره لا تكاد تخطئ أحدا من الخلق حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولعلك إن قرأت السيرة النبوية عرفت كيف عانى نبينا صلى الله عليه وسلم من المشركين، وتلك كلها مكاره يكرهها الإنسان، ولكن إن احتسب الأجر عند الله تعالى هان عليه ذلك البلاء كونها ترفع درجات العبد وتزيد في أجره والحياة ليست كلها أفراح، بل فيها أحزان كذلك، وهذا عند جميع الناس، وليس عندك وحدك فإذا كان الأمر كذلك فلم هذا القلق طالما وأن الأمر كائن لا محالة، فواجه ذلك كما يفعل جميع من حولك.

وردت نصوص كثيرة مفادها أن الشقاوة والسعادة أمر محكم من الله تعالى، ليس فيه تغيير، وكذلك أجل الموت، والأرزاق ونحو ذلك كلها محكمة، وهناك أمور معلقة على أشياء يفعلها العبد وسبق في علم الله أنه يفعلها فيحصل فيها التقديم والتأخير والتغيير بسبب العمل بتلك الأسباب.

من الأمور المتعلقة بفعل أشياء زيادة العمر وبسط الرزق، فذلك متعلق ببر الوالدين وصلة الأرحام كما ورد في الحديث: (من أراد أن ينسأ له في أثره ويبسط له في رزقه فليصل رحمه)، فالله يعلم كل شيء لا تخفى عليه خافية، قد جعل البر من أسباب زيادة العمر وصلة الرحم، كذلك وجعل المعاصي والسيئات من أسباب نزع البركة، ومن أسباب قصر الأعمار إلى غير ذلك.

من أهل العلم من يرى أنه يمكن أن يتغير كل شيء في حياة الإنسان، وأن جميع أحواله مرهونة بالأسباب، فإن عمل بأسباب السعادة كان من أهلها، ومن عمل بعمل أهل الشقاوة كان من أهلها، فقد يكون العبد في بداية أمره في شقاء وضلال، ثم يعمل بعمل أهل السعادة، فيصير سعيدا، والعكس، وهذا قد ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، وهذا قد قال به بعض أهل العمل، ومنها ما ورد عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: (اللهم إن كنت كتبتني شقيًّا فاكتبني سعيدًا)، لكن القول الأول أقوى يدل عليه الحديث الصحيح المروي عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنهم سألوا – الصحابة- قالوا: يا رسول الله هذا الذي نعمل أهو في أمر قد مضى وفرغ منه أو في أمر مستقبل؟ قال: بل في أمر قد فرغ ومضى وفرغ منه قالوا: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: (فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى).

نوصيك بالتضرع بالدعاء بين يدي الله تعالى وأنت ساجد، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فإنه إن كان الأمر المقدر مما يرفعه الدعاء، فإنه سيرفعه كما ورد في الحديث: (إن الدعاء والقدر يتعالجان بين الأرض والسماء).

نوصيك أن تجتهد بتقوية إيمانك من خلال كثرة العمل الصالح، فبالإيمان والعمل الصالح من أسباب جلب الحياة الطيبة كما قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).

يجب أن تكون متفائلا فالتفاؤل من الأخلاق الحسنة التي كان عليها نبينا عليه الصلاة والسلام، فحين منع كفار قريش دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من دخول مكة أرسلت قريش مفاوضا للتفاوض، فلما سأل عليه الصلاة والسلام من هذا قالوا هذا سهيل بن عمرو، فقال عليه الصلاة والسلام: (سهل أمركم)، فالتفاؤل يشرح الصدر وينير الدرب.

أحسن الظن بالله تعالى، فإن الله عند ظن عبده به، ففي الحديث القدسي: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ).

اعلم أن المؤمن يتقلب بين أجري الصبر والشكر كما قال عليه الصلاة والسلام: (عَجَبًا لأمرِ المؤمنِ إِنَّ أمْرَه كُلَّهُ لهُ خَيرٌ وليسَ ذلكَ لأحَدٍ إلا للمُؤْمنِ إِنْ أصَابتهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فكانتْ خَيرًا لهُ وإنْ أصَابتهُ ضَرَّاءُ صَبرَ فكانتْ خَيرًا لهُ).

اعلم أن البلايا من أسباب تكفير الذنوب يقول صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه).

عليك بما تقدر عليه من الصدقات فإنها من أسباب دفع المضار كما في الأثر: (صدقة السر تقي مصارع السوء).

أكثر من تلاوة القرآن الكريم واستماعه فذلك سيجلب لقلبك الطمأنينة كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

حافظ على أذكار اليوم والليلة كاملة وداوم عليها، فذلك حرز لك من المصائب، كما أنه سيجعل قلبك مطمئنا راضيا وهو مما يدفع النقم بإذن الله تعالى.

الزم الاستغفار، وأكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك من أسباب تفريج الهموم وتنفيس الكروب ففي الحديث: (مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، وقال لمن قال له أجعل لك صلاتي كلها: (إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ).

نسعد بتواصلك، ونسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً