الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مدى فاعلية العلاج السلوكي للتخلص من الوساوس القهرية

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يلازمني نوعان من الوساوس القهرية منذ مدة، وأعلم أن القلق هو السبب في ذلك، حيث أشعر أنني ربما أحسد شيئاً إذا نظرت إليه فأعجبني، فتجدني أقول فوراً: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، وأكررها مرات عديدة، وصرت أخاف أن أحسد أي شيء، حتى لو تخيلته في ذهني عند النوم، وكذلك أي صفة جيدة في نفسي أو زوجتي أو أهلي أو في البيت أو أي شيء.

ومن الجميل أن أقول: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، ولكن ليس كل لحظة، حيث أكون أحياناً في اجتماع عمل أو ربما قطعت كلامي لأقولها.

والعادة التكرارية الثانية هي العد، حيث صرت أعد أي شيء أمامي وبشكل زوجي (2، 4، 6) حتى أنهي الشيء، مثلاً لوحة أعد ألوانها أو كم شجرة فيها ونحو ذلك، وبحكم الثقافة فقد عرفت أن هذه وساوس قهرية.

علماً بأنني ولله الحمد لا ينقصني شيء، ووضعي ممتاز اجتماعياً وعملياً وعائلياً ولله الحمد، وقد عرفت أن السبب وساوس قهرية سببها القلق، فما العمل الآن؟ وكيف أتخلص من الحسد والعد؟ وما هي الطريقة الصحيحة سلوكياً لإلغاء أي فكرة قادمة؟ وهل توجد وصفة للتخلص من القلق سلوكياً ؟!

وأعتقد جازماً أنني لست بحاجة لأي دواء، فأنا ذكي ومحنك، والأهم من ذلك بحمد الله أنني ملتزم دينياً، فكيف أطور من شخصيتي للأفضل ولا أستسلم لاستعدادي الفطري أو أفكار الطفولة والتربية كي أحيا كما أريد؟ وكيف أجعل سلوكي بالواقع مثل أفكاري التي أحب، وأحيا الحياة كما أريد ودون انفصام أو قلق؟!

وجزاكم الله خيراً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أبو شهد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإن الوساوس القهرية إذا كانت أفكاراً أو خيالات أو أفعالاً أو طقوساً أو مخاوف أو اندفاعات كلها تأتي تحت القلق النفسي، وإن كان هناك توجه الآن في المدرسة الأمريكية للطب النفسي أن الوساوس ربما تكون أكثر من القلق، أي أن لديها جوانب أخرى، ومن المحتمل أن يأتي التشخيص الأمريكي للأمراض النفسية بجديد فيما يخص تشخيص الوساوس القهرية وكذلك مدى ارتباطها بالقلق النفسي، ولكن الذي نستطيع أن نقوله الآن أن الوساوس لا شك أن من أكبر مكوناتها القلق النفسي.

ونوعية الوساوس التي ذكرتها فيما يخص الحسد تعزى إلى الوساوس القهرية؛ لأن الحسد أمر مذموم وبغيض، فأنت حين تفسره بأنه ناتج من الوساوس فإن العلاج يكون واحدا، فإذا كان منشأ الحسد هو الوساوس أو منشأ الحسد هو سوء النفس البشرية فالعلاج هو أمر واحد وهو ما تتبعه أنت الآن وهو أن تقول: (ما شاء الله ولا قوة إلا بالله).

ولكن لابد أن تجالس أحد العلماء وتناقش معه هذا الأمر، وإن شاء الله سوف يقوم العالِم المختص بإرشادك سلوكياً ً ويساعدك للتخلص من الحسد، والجوانب السلوكية النفسية البحتة تقوم على تحقير الفكرة، أي يجب عليك أن تحقر فكرة الحسد وتتخيل أنك تضعها تحت قدميك وتدوس عليها وقل: (هذا هو الحسد)، واضرب عليه برجلك على الأرض عدة مرات، وهذه قمة التحقير، فهذا العلاج السلوكي جيد إذا أخذته بجدية وطبقته بصورة متواصلة.

ومن الطرق الجيدة لعلاج ذلك هو أن تحاول أن تبني مفاهيم مضادة للحسد، وأن تتمنى الخير للآخرين، وتدخل الفكرة المضادة في نفس لحظة الحسد، وكرر هذه التمارين، وهذه هي التمارين التي تفيد في مثل هذا السلوك القلقي الوسواسي.

وأما بالنسبة للعد فأتفق معك أنه أحد الوساوس المعروفة والتي تأتي لبعض الناس في ظروف معينة ثم تختفي بعد ذلك، والمبدأ العلاجي السلوكي هو نفس المبدأ، وهو أن تحقر الفكرة وأن تؤمن بأنها ناتجة من القلق وناتجة من الوساوس وأن تصر على نفسك إصراراً قاطعاً وقوياً أنك لن تقوم بالعد حين تريد فعل شيء معين، قل على سبيل المثال: (سوف أقوم بالاستغفار وسوف أقوم بالتسبيح وسوف أقوم بأن أتأمل في شيء طيب بدل هذه الفكرة)، أي أن تمنع الفكرة عنك وتستبدلها بأمر آخر، وعليك بطريقة ما يسمى (العد حتى الإشباع)، أي قم بالعد باستمرار حتى تحس أنك قد أجهدت وأرهقت، وهذا إن شاء الله تعالى يضعف الفكرة.

والعلاج السلوكي كثيراً ما يتطلب مساعدة المعالج، فالأبحاث تشير أنه إذا كان العلاج تحت إشراف المعالج واتخذ المريض المعالج كقدوة له في تطبيق الأساليب العلاجية فهذا أكثر نفعاً ويؤدي إن شاء الله تعالى إلى الشفاء.

أنت تخلصت من وساوس كثيرة وهذا في حد ذاته يجب أن يكون دافعاً ومحفزاً قوياً لك، فنحن نعرف تماماً أن الوساوس تختفي ثم قد تأتي في صورة وفي طبيعة مخالفة.

وأما بالنسبة لانقطاع الفكرة الوسواسية بصفة نهائية فهذا هو الذي نتمناه جميعاً، ولكن أود أن أطرح عليك الحقائق العلمية وأرجو أن تتقبلها، فالإحصاءات تشير أن عشرين بالمائة من مرضى الوساوس القهرية يمكن أن تنقطع عنهم الوساوس بصفة دائمة، وأن ستين بالمائة من مرضى الوساوس تظل لديهم بعض الأعراض البسيطة ولكن يحدث لهم توافق وتواؤم تام مع الحياة ولا تعطلهم هذه الوساوس، فإذا أضفنا هذه على تلك نجد أن ثمانين بالمائة من مرضى الوساوس القهرية هم في حقيقة الأمر يستطيعون تخطي الصعاب المتعلقة بهذا المرض، وأما العشرين بالمائة الباقية فيظلوا تحت وطأة هذا المرض ويأخذ الصفة المزمنة أو المستديمة أو المطبقة.

وأما وسائل العلاج فكما هو معلوم هي الوسائل السلوكية والوسائل البيولوجية، والآن النظريات الحديثة تفيد أن الوساوس القهرية ناتجة عن تغيرات بيولوجية ونفسية واجتماعية، فالبيولوجية تتعلق بكيمياء الدماغ، والنفسية تتحدث عن الشخصية وكذلك اكتساب سلوكيات خاصة تكون ساهمت في الإصابة بالوساوس، أما الاجتماعية فهي الظروف الحياتية.

إذن لا يمكن أن تعالج الوساوس سلوكياً فقط، فهذا ليس صحيحاً – مع احترامي لوجهة نظرك – فالمسببات ثلاثة ولابد أن تكون وسائل العلاج هي أيضاً ثلاثة، والعلاج البيولوجي – الدوائي – لا يمكن أن ننكر فضله وفعاليته الآن، وهذا لا يعني أني أقلل من العوامل أو العلاج السلوكي مطلقاً، ولكن الأفضل هو العلاج السلوكي بالإضافة إلى العلاج الدوائي، وهذا من واقع التجربة ومن واقع الأبحاث العلمية، وقد أنعم الله علينا بأدوية حديثة وفعّالة وليست ذات آثار جانبية مطلقاً.

فالعلاج الدوائي بالإضافة إلى العلاج السلوكي هو الأفيد والأحوط، وحتى تطبيق العلاج السلوكي يتطلب المزاج الحسن ويتطلب الاسترخاء ويتطلب إزالة القلق، وهذا يأتي عن طريق تناول الأدوية، والحمد لله أنت رجل تتمتع بمستوى عالٍ من الذكاء وأنت ملتزم دينياً وهذا أمر إيجابي إن شاء الله ويشكل أيضاً دافعاً ومحفزاً نحو التحسن.

وأما بالنسبة أنك تريد أن تسير بشخصيتك إلى الأفضل فهذا دائماً أمر ممكن وأمر يمكن للإنسان أن يصل إليه إذا سعى له، فأولاً دائماً التفكير الإيجابي يحسن من السلوك ويحسن من المزاج ويقرب بين أبعاد الشخصية حتى يجعلها أكثر توازناً.

وإدارة الوقت بصورة إيجابية وجد الآن أنها من العوامل التي تجعل الإنسان حسن المزاج ومتوازناً ويحس بالحوافز الإيجابية الداخلية، وكذلك الشعور الدائم بقيمة الذات وعدم تحقيرها، أي أن الإنسان عليه أن ينظر إلى نفسه بصورة إيجابية.

ونحن الحمد لله في هذه الأمة الإسلامية العظيمة، وهذا في حد ذاته يعتبر أمراً عظيماً ونعمة كبرى لابد أن نستوعبها ولابد أن نتذكرها دائماً، والإنسان الذي يكون قريباً من ربه يستطيع تحمل هذه الابتلاءات وتخطيها، وهذا أيضاً وسيلة علاجية في نظري يجب أن لا يتناساها الناس ويجب أن نعطيها قيمتها ويجب أن تكون هي الوسيلة الأولى التي نفكر فيها ونجعلها جزءاً من حياتنا.

والرفقة الطيبة والقدوة الحسنة دائماً تبني الشخصية بصورة إيجابية، والرضا بما قسمه الله تعالى يجعل الإنسان أكثر ارتباطاً بالواقع.

والمطلوب منك أن تنزل تلك الأسس السابقة إلى دائرة الواقع والتطبيق، وهذا يجعل الإنسان يكون في طمأنينة وترتفع لديه الكفاءة النفسية والفعالية بإذن الله تعالى، ودائماً نحن نذكر ممارسة الرياضة ونذكر تمارين الاسترخاء كوسائل مهمة جدّاً لإزالة القلق والتخلص منه، فكن حريصاً على ذلك.

قضية الاستعداد الفطري وأفكار الطفولة والتربية هذه أيضاً يجب ألا ينظر الإنسان إليها بسلبية، التربية أو الظروف الأولى في حياة الإنسان مهما كانت قاسية يجب ألا تقاس بمقاييس الفشل، إنما هي تجارب وعليك أن تعيش حاضرك هذا بقوة وأن تعيش مستقبلك بأمل.

وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً