فالواجب عليك هو التوبة من هذا الذنب، ومن شروط التوبة رد المظالم لأهلها أواستحلالهم، والأولى في الاستحلال أن تبين قدر المال الواجب عليك لصاحب العمل، وإن علمت أن صاحب العمل لن يبرئك إذا أخبرته بقيمة ما عليك من حقوق فلا يجوز لك عدم بيان القيمة ولا يصح الإبراء في هذه الحالة، فإن انتفى هذا المحذور وأبرأك صاحب العمل مع جهله بقيمة ما له من الحقوق فهذا إبراء صحيح يسقط الإثم عنك إن شاء الله تعالى ويحل لك أخذ باقي حقوقك، وهذا على القول الذي نراه راجحاً، فإن الفقهاء اختلفوا في صحة الإبراء من المجهول، قال ابن قدامة في المغني: تصح البراءة من المجهول, إذا لم يكن لهما سبيل إلى معرفته. وقال أبو حنيفة: تصح مطلقا. وقال الشافعي: لا تصح, إلا أنه إذا أراد ذلك قال: أبرأتك من درهم إلى ألف. لأن الجهالة إنما منعت لأجل الغرر, فإذا رضي بالجملة, فقد زال الغرر, وصحت البراءة. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجلين اختصما إليه في مواريث درست: { اقتسما, وتوخيا الحق, ثم استهما, ثم تحالا } رواه أبو داود. ولأنه إسقاط, فصح في المجهول, كالعتاق والطلاق, وكما لو قال: من درهم إلى ألف. ولأن الحاجة داعية إلى تبرئة الذمة, ولا سبيل إلى العلم بما فيها, فلو وقف صحة البراءة على العلم, لكان سدا لباب عفو الإنسان عن أخيه المسلم, وتبرئة ذمته, فلم يجز ذلك, كالمنع من العتق. وأما إن كان من عليه الحق يعلمه, ويكتمه المستحق, خوفا من أنه إذا علمه لم يسمح بإبرائه منه, فينبغي أن لا تصح البراءة فيه; لأن فيه تغريرا بالمشتري, وقد أمكن التحرز منه. انتهى .
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية ما ملخصه: والذي عليه جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية ورواية عند الحنابلة أن الإبراء من المجهول صحيح, وذلك لأن جهالة الساقط لا تفضي إلى المنازعة. ويقرب منه الاتجاه الثاني, وهو رواية للحنابلة أيضا, وهو صحة الإبراء مع الجهل إن تعذر علمه, وإلا فلا, وقالوا: إنه لو كتمه طالب الإبراء خوفا من أنه لو علمه المبرئ لم يبرئه لم يصح . أما الاتجاه الثالث وهو مذهب الشافعية ورواية عند الحنابلة , فهو أنه لا يصح الإبراء عن المجهول مطلقا. انتهـى .
والحديث الذي استدل به الحنابلة رواه أحمد وأبو داود عن أُمِّ سَلَمَةَ قالت: جاء رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إلى رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قد دُرِسَتْ ليس بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ، فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنكم تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ وَإِنَّمَا أنا بَشَرٌ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألحن بِحُجَّتِهِ أو قال لِحُجَّتِهِ من بَعْضٍ فإني أقضي بَيْنَكُمْ على نَحْوِ ما أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ له من حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ يأتي بها إِسْطَاماً في عُنُقِهِ يوم الْقِيَامَةِ، فَبَكَى الرَّجُلاَنِ وقال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: حقي لأخي، فقال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا إذا قُلْتُمَا فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ ثُمَّ اسْتَهِمَا ثُمَّ لِيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ. قال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
والإسطام -كما جاء في لسان العرب- الحديدة التي تحرك بها النار وتسعر أي أقطع له ما يسعر به النار على نفسه ويشعلها، أو أقطع له نارا مسعرة.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: فيه دليل على أنه يصح الإبراء من المجهول لأن الذي في ذمة كل واحد ههنا غير معلوم، وفيه أيضا صحة الصلح بمعلوم عن مجهول، ولكن لا بد مع ذلك من التحليل.
ولمزيد الفائدة يمكنك مراجعة الفتوى رقم : 59949 .
والله أعلم. |