السؤال
سؤالي عن المرأة التي غاب عنها زوجها مدة (15) عامًا، وبعد هذه السنوات وصلتهم أخبار بأنه قد مات منذ (13) عاماً، علماً بأنها رزقت بولد بعد ذهابه. فهل هذه المرأة تربط على زوجها أم لا؟ علماً بأن بعض المشايخ في بلادنا قالوا: إنه يجب عليها الربط مستندين بذريعة أنه حق الزوج، ولا أعرف إلى ماذا استندوا، وإذا كان لا يجب عليها الربط، فهل حرام على من يقول لها اربطي؟
أفيدونا، رحمكم الله بالتفصيل، ولكم منا جزيل الشكر.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فمن غاب عن زوجته، فلا تخلو غيبته من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون غير منقطعة بحيث يعرف خبره ويمكن الاتصال به، فهذا لا يحل لامرأته أن تتزوج بإجماع أهل العلم، إلا إذا رفعت أمرها للقاضي ففسخ النكاح لتعذر النفقة من مال الزوج أو لخشية الزوجة من الوقوع في الزنا أو نحو ذلك.
الحالة الثانية: أن تكون غيبته منقطعة، بحيث لا يعلم له موضوع ولا يصل منه خبر.
ففي هذه الحالة اختلف العلماء على قولين:
القول الأول: لا تتزوج امرأته حتى يتبين موته أو فراقه لها، قال ابن حجر في فتح الباري: وجاء عن علي: إذا فقدت المرأة زوجها لم تتزوج حتى يقدم أو يموت. أخرجه أبو عبيد في كتاب النكاح. وقال عبد الرزاق: بلغني عن ابن مسعود أنه وافق علياً في امرأة المفقود أنها تنتظره أبداً. اهـ.
القول الثاني: تتزوج، لكن بعد ضرب مدة للتأكد من حياة زوجها، فإن لم تعلم حلَّ لها الزواج.
والقائلون بضرب المدة اختلفوا في مقدارها على قولين:
القول الأول: لا تقدر بسنين معينة، بل يرجع في تقديرها إلى الحاكم، واستدل أصحاب هذا القول بأدلة:
الأول: أن الأصل حياة المفقود، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بيقين.
الثاني: أن التحديد لا دليل عليه.
الثالث: أن التحديد كما أنه غير منقول فهو غير معقول، لأن الحنابلة -مثلاً- قالوا: من سافر لتجارة أو سياحة أو طلب علم فخفي خبره، فهذا ينتظر تتمة تسعين سنة منذ ولد، لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا، وهذا فاسد، لأن من فقد وهو ابن تسع وثمانين سنة ينتظر على هذا القول سنة واحدة ثم يحكم بموته، والسنة الواحدة لا تكفي للبحث عنه. وهكذا سائر التحديدات لا تخلو من اعتراضات، فالذي يراه أصحاب هذا القول هو أن التحديد في هذه المسألة كالتحديد في نظيراتها: بأن يجتهد الحاكم وأهل الخبرة في تقدير مدة الانتظار، ويختلف ذلك باختلاف الأوقات والبلدان والأشخاص.
القول الثاني: أنها تقدر بسنين معينة ويختلف تقدير السنين عند هؤلاء باختلاف الغيبة، هل يغلب عليه فيها الهلاك أو يغلب عليه فيها السلامة؟ وذكر تلك التفاصيل يطول.
والراجح عندنا في هذه المسألة هو: أن من فقد زوجها -بأي صورة تم فقده- أن ترفع أمرها للحاكم، ثم تنتظر أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً، ثم تتزوج -إن شاءت- قضى بهذا الخليفتان عمر وعثمان وغيرهم من الصحابة والتابعين.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في فتح الباري: فإن مذهب الزهري في امرأة المفقود أنها تتربص أربع سنين. وقد أخرجه عبد الرزاق وسعيد ابن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن عمر، منها لعبد الرزاق من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قضيا بذلك، وأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عن ابن عمر وابن عباس قالا: تنتظر امرأة المفقود أربع سنين، وثبت أيضاً عن عثمان وابن مسعود في رواية وعن جمع من التابعين كالنخعي وعطاء والزهري ومكحول والشعبي واتفق أكثرهم على أن التأجيل من يوم ترفع أمرها للحاكم وعلى أنها تعتد عدة الوفاة بعد مضي الأربع سنين واتفقوا أيضاً على أنها إن تزوجت فجاء الزوج الأول خُير بين زوجته وبين الصداق، وقال أكثرهم: إذا اختار الأول (الصداق) غرمه الثاني، ولم يفرق أكثرهم بين أحوال الفقد إلا ما تقدم عن سعيد بن المسيب. اهـ.
وهذا في المفقود بوجه عام، أما في حالة هذه المرأة فإن كانت قد تأكدت من موت زوجها قبل ثلاثة عشر عاماً، فلا عدة عليها، لأن زمنها قد انتهى، ولا يشترط للعدة القصد، بدليل أن الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتها بمرور زمنها بدون قصد منهما، وبهذا قال عمر بن الخطاب وابن عباس وابن مسعود وغيرهم -رضي الله عن الجميع-، أما إذا لم تتأكد من موته، فإنه يعتبر مفقوداً وقد مضى حكمه.
والله أعلم.