الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نصيحة غالية... للاستمرار في التوبة وطريق الهدى

السؤال

أنا أغضب الله كثيرًا، وكلما أنوي التوبة أرجع لما كنت عليه من فسق، لكن الله يعلم كم أنا أخاف الله في أمور كثيرة، لكن الشيطان يغلبني، عمري 19سنة، فادعوا الله أن يهديني، فأنا أريد أن أكون مسلماً ملتزماً.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فنسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يهدي قلبك، ويشرح صدرك، وينور بصيرتك، ويأخذ بناصيتك للبر والتقوى، ويوفقنا وإياك لحياة السعداء، وموت الشهداء، ومرافقة الأنبياء في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

أخي الكريم: أسعد ما في هذه الدنيا وألذ ما فيها أن يمتلأ القلب بالإيمان، ويرطب اللسان بالذكر وتلاوة القرآن، وتخضع بالطاعة الجوارح والأركان.

أخي الكريم: تعال لنقف مع آيات الغفور الرحمن، آيات تهز المشاعر، وتحرك الوجدان، آيات تحيي القلوب، وتنير الأبصار، يقول الله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طـه:123-126]. ويقول -عزَّ وجلَّ-: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22]. ويقول -عزَّ وجلَّ-: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ذاق طعم الإيمان من رضى بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً. رواه مسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار. متفق عليه.

هذا الذوق والحلاوة عبر عنهما بعض السلف بقوله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقال الآخر: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وهو في السجن، في ما نقله عنه تلميذه ابن القيم في الوابل الصيب: ما يفعل بي أعدائي؟! أنا جنتي في صدري، إن قتلي شهادة، وطردي سياحة، وسجني خلوة. وكان يقول: المحبوس من حبس قلبه عن الله، والمأسور من أسره هواه.

أخي الكريم: إن جنة المؤمن في الدنيا في صدره، وإن عاش فقيراً سجيناً، وفي الآخرة جنته في روحه وبدنه. وإن نار الكافر في الدنيا في قلبه، وإن عاش في نعيم المال والسلطان، وسائر متع الدنيا، وفي الآخرة ناره في روحه وبدنه.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم-: يُؤْتَىَ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدّنْيَا، مِنْ أَهْلِ النّارِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيُصْبَغُ فِي النّارِ صَبْغَةً: ثُمّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْراً قَطّ؟ هَلْ مَرّ بِكَ نَعِيمٌ قَطّ؟ فَيَقُولُ: لاَ. وَاللّهِ يَا رَبّ وَيُؤْتَىَ بِأَشَدّ النّاسِ بُؤْساً فِي الدّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنّةِ. فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْساً قَطّ؟ هَلْ مَرّ بِكَ شِدّةٌ قَطّ؟ فَيَقُولُ: لاَ. وَاللّهِ يَا رَبّ مَا مَرّ بِي بُؤْسٌ قَطّ. وَلاَ رَأَيْتُ شِدّة قط. رواه مسلم.

وقال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].

أخي الكريم: لذة الدنيا وشهواتها فانية، يسبقها تعب وجهد في تحصيلها، ويعقبها ألم وحسرة وضيق بعد المتعة بها.

أخي الكريم: إذا سول لك الشيطان المعصية، فتذكر أنه عدوك اللدود يدعوك إلى النار، ودار البوار: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].

والخلاص أن تستعيذ بالله منه: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].

أخي: تذكر نظر الله إليك وقدرته عليك، واعلم أنه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

أخيراً: ما ذكرته لك إنما هو غيض من فيض، وقطرة من مطر، فأدعوك إلى التوبة الصادقة، فالتائب حبيب الله، كما قال الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222].

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك حينما أنزل الله توبته: أبشر بخير يوم مر عليك منذ أن ولدتك أمك. متفق عليه.

فالتوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وفقنا الله جميعاً لهداه، وجعل عملنا في رضاه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني