الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
ففي هذا المقال جانب كبير من الخطأ والمغالطة، وأصل ذلك أن يعلم السائل الكريم أن منهج أهل السنة والجماعة عدم تأويل الصفات مطلقا ، وأن الألفاظ الشرعية لا يصح تأويلها إلا بدليل راجح، ويمكن أن تراجع في ذلك الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 64272، 74007، 12101 ومنها تعرف خطأ صاحب المقال في قوله (الوهابيةُ يُفَسّرُون آيات القرآن على الظاهر وهذا لا يجوز)!! فقوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا. {الفجر:22}، لا يصح تأويله بظهور عجائب قدرة الله، وليس هذا هو مذهب أهل السنة كما ورد في هذا المقال، بل هذا مع مخالفته لظاهر القرآن يخالف نص السنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم ينتظرون فصل القضاء، وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي. قال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا والطبراني من طرق أحدها صحيح واللفظ له، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وحسنه الذهبي في العلو وصححه الألباني.
وبذلك قال أئمة التفسير.
قال الطبري: يقول تعالى ذكره وإذا جاء ربك يا محمد وأملاكه صفوفا صفا بعد صفّ. اهـ.
ثم أورد من الأحاديث والآثار ما يدل لقوله ويثبت مجيء الله تعالى.
وقال ابن كثير: وَجَاءَ رَبُّكَ. يعني لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم.. فيشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء فيشفعه الله في ذلك.. فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا. انتهى.
وهذا القول هو الذي نسبه الأشعري في (مقالات الإسلاميين) لأهل السنة في فصل: اختلاف الناس في التجسيم. بعد أن ذكر لهم ست عشرة مقالة، قال: وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء، وأنه على العرش.. وأن له وجها كما قال الله: (ويبقى وجه ربك) وأن له يدين، كما قال: (خلقت بيدي).. وأنه يجيء يوم القيامة وملائكته، كما قال: (وجاء ربك والملك صفا صفا)... انتهى.
وأما ما نسب للإمام أحمد في تأويل هذه الآية بمجيء الأمر أو مجيء القدرة.
فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: هذا الذي ذكره القاضي وغيره أن حنبلا نقله عن أحمد في كتاب "المحنة" أنه قال ذلك في المناظرة لهم يوم المحنة لما احتجوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: تجيء البقرة وآل عمران، قالوا: والمجيء لا يكون إلا لمخلوق. فعارضهم أحمد بقوله: وجاء ربك. أو يأتي ربك. وقال: المراد بقوله "تجيء البقرة وآل عمران" ثوابهما، كما في قوله { وجاء ربك } أمره وقدرته. وقد اختلف أصحاب أحمد فيما نقله حنبل، فإنه لا ريب أنه خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا وتأويل النزول والاستواء ونحو ذلك من الأفعال. ولهم ثلاثة أقوال. قيل: إن هذا غلط من حنبل انفرد به دون الذين ذكروا عنه المناظرة، مثل صالح وعبد الله والمروذي وغيرهم .. وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة كالخلال وصاحبه. قال أبو إسحاق ابن شاقلا : هذا غلط من حنبل لا شك فيه ... والقول الثاني: قال طائفة من أصحاب أحمد: هذا قاله إلزاما للخصم على مذهبه .. لا أنه يقول بذلك فإن مذهبه ترك التأويل. والقول الثالث: أنهم جعلوا هذا رواية عن أحمد. وقد يختلف كلام الأئمة في مسائل مثل هذه، لكن الصحيح المشهور عنه رد التأويل. انتهى.
وقال أيضا: قال الشيخ علي بن عبيد الله الزاغوني: وقد اختلف كلام إمامنا أحمد في هذا المجيء هل يحمل على ظاهره وهل يدخل التأويل؟ على روايتين، إحداهما أنه يحمل على ظاهره من مجيء ذاته، فعلى هذا يقول: لا يدخل التأويل إلا أنه لا يجب أن يحمل مجيئه بذاته إلا على ما يليق به، وقد ثبت أنه لا يحمل إثبات مجيء هو زوال وانتقال يوجب فراغ مكان وشغل آخر من جهة أن هذا يعرف بالجنس في حق المحدث الذي يقصر عن استيعاب المواضع والمواطن لأنها أكبر منه وأعظم يفتقر مجيئه إليها إلى الانتقال عما قرب إلى ما بعد، وذلك ممتنع في حق الباري تعالى لأنه لا شيء أعظم منه ولا يحتاج في مجيئه إلى انتقال وزوال لأن داعي ذلك وموجبه لا يوجد في حقه، فأثبتنا المجيء صفة له ومنعنا ما يتوهم في حقه ما يلزم في حق المخلوقين لاختلافهما في الحاجة إلى ذلك، ومثله قوله {وجاء ربك والملك صفا صفا}... قال: وهذه الرواية هي المشهورة والمعمول عليها عند عامة المشايخ من أصحابنا.
قلت- أي ابن تيمية-: أما كون إتيانه ومجيئه ونزوله ليس مثل إتيان المخلوق ومجيئه ونزوله فهذا أمر ضروري متفق عليه بين علماء السنة ومن له عقل، فإن الصفات والأفعال تتبع الذات المتصفة الفاعلة، فإذا كانت ذاته مباينة لسائر الذوات ليست مثلها لزم ضرورة أن تكون صفاته مباينة لسائر الصفات ليست مثلها، ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفة كل موصوف إلى ذاته. ولا ريب أنه العلي الأعلى العظيم فهو أعلى من كل شيء وأعظم من كل شيء، فلا يكون نزوله وإتيانه بحيث تكون المخلوقات تحيط به أو تكون أعظم منه وأكبر هذا ممتنع، وأما لفظ "الزوال" و "الانتقال" فهذا اللفظ مجمل... والأحسن في هذا الباب مراعاة ألفاظ النصوص فيثبت ما أثبت الله ورسوله باللفظ الذي أثبته وينفي ما نفاه الله ورسوله كما نفاه، وهو أن يثبت النزول والإتيان والمجيء؛ وينفي المثل والسمي والكفؤ والند. انتهى.
وراجع في إثبات المجيء ونحوه من الصفات الواردة في الكتاب والسنة، الفتويين: 120182، 93229.
وقول صاحب المقال المسؤول عنه: أحمد بن حنبل ينزه الله عن أن يكون متصوراً، فقد ثبت عنه أنه قال: مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك. رواه أبو الحسن التميمي الحنبلي في كتابه المسمى اعتقاد الإمام المبجل أحمد بن حنبل، وقوله هذا مأخوذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا فكرة في الرب. رواه أبو الحسن الأنصار.، فلم نجده في الكتاب المشار إليه هكذا، ولكن لفظه كما يلي: ذهب أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى إلى أن عدل الله عز وجل لا يدرك بالعقول؛ فلأجل ذلك كان من حمله على عقله جوره، وشرح بعض أصحابه ذلك فقال: لما كان الله سبحانه وتعالى لا يتصور بالعقول ولا يتمثله التمييز وفات العقول دركه، ومع ذلك فهو شيء ثابت، وما تصور بالعقل فالله بخلافه، وكذلك صفاته، فمن حمل الربوبية وصفاتها على عقله رجع حسيرا ورام أمرا ممتنعا عسيرا. انتهى.
والمشهور أن هذا الكلام من قول ذي النون المصري، كما رواه عنه ابن عساكر في (تاريخه) ونقله عنه القشيري في (الرسالة) والقاضي عياض في (الشفا) والذهبي في (السير). وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب (الاستقامة) نحوه من كلام الحلاج ثم قال: هذا كلام مجمل، ومعناه الصحيح أن حقيقة الرب لا يتصورها العبد، من تصور شيئا اعتقد أنه حقيقة الرب فالله بخلاف ذلك. والمعنى الباطل أن يقال كلما تصوره العبد وعقله فهو مخالف للحق فليس الأمر كذلك انتهى..
وأما حديث (لا فكرة في الرب) فقال ابن كثير: ليس بمحفوظ بهذا اللفظ، وإنما الذي في الصحيح: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا حتى يقول: من خلق ربك، فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته.
وقول صاحب المقال: (يُحاسب الخَلقَ بكلامه الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ليس مقابلة) وبعده قوله: (يُحاسبهم بكلامه يُسمعُهم كلامَه الذي هو ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً) كلام يكفي في إبطاله تصوره، كما يقولون، وهو يخالف ما ثبت عن الإمام أحمد في كتاب (اعتقاد الإمام ابن حنبل) الذي نقل منه صاحب المقال، ففيه: إن القرآن كيف تصرف غير مخلوق، وإن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف. انتهى.
وراجع في تفصيل ذلك الفتويين:19390، 35232.
وقول صاحب المقال: (يَرَونَهُ بلا كيف ولا جهة لا يَرَونَهُ هكذا إلى فوق ولا يَرَونَهُ هكذا مُتَحَيّزًا إلى يمينهم ولا يَرَونَهُ مُتَحَيّزًا إلى جهة تحت بل بلا كيفٍ ولا جهة)، فهذا الكلام حقيقته إنكار الرؤية، وهو من قول المبتدعة.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة: والمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة في الجنة في جهة العلو، وأما القول بأنه يرى لا في جهة فهو قول المبتدعة، وهو قول باطل يخالف ما ثبت في الأدلة من علو الله على خلقه. انتهى.
وفي بحث عن عقيدة الإمام الشافعي للدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس، نشر في (مجلة البحوث الإسلامية) قال: أخرج اللالكائي عن الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. قال الشافعي: فلما حجبوا هؤلاء في السخط كان هذا دليلا على أنهم يرونه في الرضا، قال الربيع: قلت: يا أبا عبد الله، وبه تقول؟ قال: نعم، إثبات أن الله متكلم بكلام حقيقي وكلام الله غير مخلوق به أدين الله.
قال: يرد الإمام الشافعي بقوله هذا على أصناف من الجهمية المعطلة كالمعتزلة حيث ينكرون رؤية المؤمنين ربهم بأبصارهم، كما يرد على الماتريدية والأشعرية حيث يزعمون أن المؤمنين يرون ربهم ولكن لا فوق ولا تحت ولا خارج ولا داخل ولا في جهة، وإلى آخر هذيانهم الذي جعلوا به الرؤية من المستحيلات الممتنعات، فصار قولهم هذا من أبطل الباطل لوجهين، الأول: الإنكار للرؤية وإن اعترفوا بها ظاهرا. الثاني: إنكار العلو لله تعالى. وهذا من أعظم الكفر وأقبح الإلحاد في صفات الله تعالى. انتهى.
ومن المناسب أن نختم الجواب على مسألة الرؤيا خاصة وعلى المقال عامة، بقول الطحاوي رحمه الله: والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: وجوه يومئذ ناضرة.. إلى ربها ناظرة. وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. انتهى.
ويا حبذا لو رجع السائل الكريم لشرح هذه الفقرة من العقيدة الطحاوية، وللمزيد من الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 2426، 31498.
والله أعلم.