الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله أن يفرج كربك ويكشف همك ويزيل غمك، ثم اعلم ـ وفقك الله ـ أن من أكبر الأسباب التي تجعل المسلم لا يتأثر بما يؤديه من العبادات عدم حضور القلب فيها ومن ثم يتصور أنها مجرد حركات يؤديها وكلمات يرددها لا حياة فيها ولا روح.
واعلم ـ وفقك الله ـ أن تكميل أعمال القلوب والاجتهاد في إصلاحها والإقبال بها على الله تعالى هو سر سعادتها وراحتها، فإذا أقبل القلب على الله شعر بطعم العبادة والتذ بها وأنس بها وكانت قرة عينه وبهجة نفسه ونعيم روحه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: وجعلت قرة عيني في الصلاة.
وكان يقول لبلال: أرحنا بها يا بلال.
ومتى فرغ القلب من هذه المعاني، فإنه لا يشعر للعبادة بطعم ولا يكون لها في نفسه أثر، فعليك بالافتقار إلى الله تعالى كي يصلح قلبك ويعينك على مقصودك، وإذا علم الله منك الصدق، فإنه سيوفقك ويعينك، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: إذا تبين هذا فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وفضله عما سواه.
والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة ـ وهي العلة الغائية ـ ومن جهة الاستعانة والتوكل ـ وهي العلة الفاعلة ـ فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائما مفتقر إلى حقيقة ـ إياك نعبد وإياك نستعين.
انتهى.
فإذا أقبلت على صلاتك ـ أيها الأخ الكريم ـ فاطرح عنك هموم الدنيا وشواغلها واستحضر أنك واقف بين يدي ربك تبارك وتعالى وتفكر فيما تتلوه من الآيات وتردده من الأذكار، وإذا ركعت أو سجدت فاستحضر الذلة والانكسار بين يدي ربك تعالى وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، وكلما وسوس لك الشيطان فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا، فإنه يريد أن يفسد عليك صلاتك وعبادتك، وساعتها ستحس بلذة الصلاة وتأنس بالعبادة وتقر بها عينك، بخلاف من استرسل مع وساوسه ولم يحضر قلبه في الصلاة، فإنه لا يخرج منها بشيء، يقول ابن القيم ـ رحمه الله: فيقوم ـ أي العبد الذي استرسل مع الوساوس - فيها أي في الصلاة - بلا قلب، فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز و جل الحاضر بقلبه في صلاته فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله لم تخف عنه بالصلاة، فإن الصلاة إنما تكفر سيئات من أدى حقها وأكمل خشوعها ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقابله فهذا إذا انصرف منها وجد خفة من نفسه وأحس بأثقال قد وضعت عنه فوجد نشاطا وراحة وروحا حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها، لأنها قرة عينيه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها، فالمحبون يقولون : نصلي فنستريح بصلاتنا كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم صلى الله عليه و سلم: يا بلال أرحنا بالصلاة.
ولم يقل أرحنا منها.
وقال صلى الله عليه و سلم: جعلت قرة عيني في الصلاة.
فمن جعلت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه بدونها؟ وكيف يطيق الصبر عنها؟ فصلاة هذا الحاضر بقلبه الذي قرة عينه في الصلاة هي التي تصعد ولها نور وبرهان حتى يستقبل بها الرحمن عز وجل فتقول: حفظك الله تعالى كما حفظتني.
انتهى.
فهذا فيما يتعلق بأمر الصلاة التي هي عمود الدين، وكذلك ليكن شأنك في سائر عباداتك كقراءة القرآن، وأما ما ذكرته من كون الداعي لا بد ـ لكي يستجاب له ـ أن يبكي ويذرف الدموع، فكلام غير صحيح، بل إذا توجه العبد بقلبه إلى ربه عز وجل وصدق في المسألة وتوكل على ربه تعالى فإن ربه تعالى لا يخيب قصده وهو تعالى كريم يستحيي من العبد إذا رفع يديه يدعو أن يردهما صفرا خائبتين.
فلا يصدنك الشيطان عن الدعاء، فإنه من أمضى الوسائل على تحصيل المطلوب ودفع المرهوب، وما عليك إلا أن تصدق في التوكل على الله تعالى وتتوجه إليه بإخلاص، وتحرى أوقات الإجابة، فإن ذلك خير، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن العبد لا يعدم الخير من الدعاء، فإما أن يستجيب الله له، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، وإما أن يدخرها له يوم القيامة.
وعليك أن تحسن ظنك بربك تعالى، فإن ما أنت فيه من النعم إنما أتاك الله عز وجل به، وهو الذي تولى أمرك وجلب لك الخير ودفع عنك السوء من يوم ولدت، بل من قبل ذلك، ففيم تسيء به الظن وتتوقع المكروه دائما، بل عليك أن تستحضر صفات الجمال لله تعالى فهو الرحيم الودود اللطيف وهو تعالى أرحم بعبده من الأم بولدها ـ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ـ فإذا كنت لا تتوقع سوءا من أمك التي ولدتك، فإن الله أرحم بك منها، ولا يقدر لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له، فارض بحكمه واستسلم لأمره وأحسن ظنك به، فإنه تعالى أهل لكل جميل ورحمته وسعت كل شيء، واعلم أنه لا تعارض بين كون المؤمن يبتلى وتصيبه المصائب وذلك رحمة من الله تعالى به ليرفع درجاته ويكفر سيئاته، وبين كونه يحيا حياة طيبة، فإن مدار طيب الحياة على راحة القلوب وطمأنينتها، فلو قدر أن المؤمن تعرض لبلاء ما، فإنه يرضى بما قدره الله ويصبر لحكمه ويستسلم لأمره ويعلم أن ربه ما قدر ذلك إلا لحكمة بالغة فيكون في خضم البلاء منشرح الصدر مطمئن القلب.
ونحن ننقل لك هذا الكلام الطيب الذي يصف فيه العلامة ابن القيم حال شيخه ـ شيخ الإسلام ـ لتعلم حقيقة ما ذكرناه، قال ـ رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ـ ما شاء الله.
وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
انتهى.
والله أعلم.