السؤال
هل منع مالك الإنابة في الحج لمن توفي ورد حديث الجهنية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم قائلة: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم ـ ولم يروه في الموطإ، لأنه يرى عدم ثبوته واستدل بقوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمذهب مالك ـ رحمه الله ـ أنه لا تجوز الاستنابة عن المعضوب، ولا يجب الحج عن الميت من تركته، إلا أن يوصي بذلك، وعنه روايات أخرى في الحج عن الميت، قال في تحفة الأحوذي: قوله - أي الترمذي - وقال مالك: إذا أوصى أن يحج عنه، حج عنه إلخ ـ قال العيني في شرح البخاري: وحاصل ما في مذهب مالك: ثلاثة أقوال: مشهورها لا يجوز.
ثانيها: يجوز من الولد.
ثالثها: يجوز إن أوصى به.
انتهى.
وقد أجاد الفقيه ابن رشد المالكي في بيان الخلاف في هذه المسألة ومنشئه، فقال ما عبارته: وأما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة، فعند مالك وأبي حنيفة أنه لا تلزمه النيابة إذا استطيعت مع العجز عن المباشرة.
وعند الشافعي أنها تلزم، فيلزم على مذهب الذي عنده مال يقدر أن يحج به عنه غيره، إذا لم يقدر هو ببدنه أن يحج عن غيره بماله، وإن وجد من يحج عنه بماله، وبدنه ـ من أخ، أو قريب ـ سقط عنه ذلك، وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب، وهو الذي لا يثبت على الراحلة، وكذلك عنده الذي يأتيه الموت ولم يحج يلزم ورثته عنده أن يخرجوا من ماله مما يحج به عنه، وسبب الخلاف في هذا: معارضة القياس للأثر، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد، فإنه لا يصلي أحد عن أحد باتفاق، ولا يزكي أحد عن أحد، وأما الأثر المعارض لهذا، فحديث ابن عباس المشهور خرجه الشيخان، وفيه أن امرأة من خثعم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله فريضة الله في الحج على عباده، أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم ـ وذلك في حجة الوداع، فهذا في الحي.
وأما في الميت: فحديث ابن عباس ـ أيضاً ـ خرجه البخاري، وقال: جاءت امرأة من جهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت الحج، فماتت، أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها، أرأيت لو كان عليها دين، أكنت قاضيته؟ دين الله أحق بالقضاء.
ولا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير تطوعاً، وإنما الخلاف في وقوعه فرضاً.
انتهى.
ومما أجاب به المالكية عن حديث الخثعمية والجهنية ما ذكره أبو العباس القرطبي المالكي في المفهم وعبارته: وإنما قال لها ذلك - يريد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الخثعمية بالحج عن أبيها - لما رأى من حرصها على إيصال الخير والثواب لأبيها، فأجابها إلى ذلك، كما قال للأخرى التي قالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته عنها؟ قالت: نعم.
ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات، وإيصال الخير والبر للأموات، ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدين! وبالإجماع: لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه.
انتهى.
ولم يذكر مالك حديث الجهنية في موطئه، ولم نقف له على تضعيف للحديث، ولا يلزم من عدم ذكره في الموطإ ولا من مخالفته له أنه يضعفه، فإنه ذكر حديث الخثعمية في الموطإ ثم هو لا يقول به، لكونه حمله على الخصوصية بأبي تلك المرأة ـ كما ذكر ذلك أبو عمر في التمهيد ـ وعلى كل، فمذهب الجمهور في وجوب الحج عن الميت الذي لم يحج أقوى وأرجح دليلاً، وأما من لم يقل بمقتضى هذا الحديث من علماء الأمة الكبار فمن المقطوع به أن له في ذلك عذراً، فإن أحداً من علماء الأمة المشهود لهم بالعدالة والأمانة لا يتعمد مخالفة الحديث الصحيح إلا لعذر ـ من اعتقاد ضعف، أو خصوصية، أو نسخ، أو تأويل ـ بحمل على خلاف الظاهر ونحو ذلك من الأعذار التي بينها العلماء، وليراجع كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله.
والله أعلم.