الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الاستقامة والعمل الصالح منه الواجب ومنه المستحب

السؤال

الرزق يشمل كل أمر نافع حلال أو حرام، وبالتالي يشمل كل خير مثل العلم والعمل الصالح أليس كذلك ؟ من أسباب الرزق في القرآن أن ( من استقام على الطريقة أسقي ماء غدقا ) وعند قراءة أكثر من تفسير لهذا الأمر وجد أن ما معناه أن ( من قام بالطاعات التي بالدين كلها واجتنب نواهيه فإنه يرزق ) ولم يحدد نوعا معينا من الرزق . فهل معنى ذلك أن المقصود هو الرزق بصورة عامة أي كل الرزق وبالتالي الخير كله ؟ وإن كانت الإجابة بنعم فإن الرزق الحلال يشمل الخير من علم شرعي وكل أعمال صالحة وطاعة وإيمان أي إذا أردت عمل أي خير أو طاعة فإنه ينبغي الأخذ بالأسباب المؤدية للرزق عامة مثل (الاستقامة على الطريقة) أي أعمل كل الطاعات وأجتنب كل المعاصي، وأيضا بأسباب أخرى من أمور شرعية ودنيوية. أليس كذلك ؟ وإذا كان عمل الخير أو الطاعة يحتاج لهذه الأسباب لكي يتم ولا يتم بدونها، فإن الأسباب تأخذ حكم هذه الطاعة أو هذا العمل، فإذا كان يوجد فرض من الفروض ( وهذا من الخير والرزق) ولا يتم إلا (بالاستقامة على الطريقة) فهل أصبحت (الاستقامة على الطريقة) فرضا ؟ وهل أصبح عمل الطاعات من فروض وسنن فرض واجتناب النواهي من مكروهات ومحرمات فرضا أم كيف تتم (الاستقامة على الطريقة) إن كانت فرضا ؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فمحل إشكال السائل أنه لم يفرق بين الفرض والنفل، وبين الواجب والمستحب، وبين الحتم والندب ... ونحو ذلك مما يستعمله أهل العلم من الفقهاء وأرباب السلوك. فالاستقامة والطاعة والعمل الصالح وما يؤدي إلى هذه المعاني من الألفاظ ، جميع ذلك منه الواجب ومنه المستحب، وكذلك الإيمان نفسه، فإنه شُعَبٌ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

ويمكن أن نقسم المؤمنين إلى ثلاث طبقات رئيسة، كما يفهم من قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) [الواقعة] وقوله سبحانه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32] قال السعدي: فكلهم اصطفاه الله تعالى لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان وعلوم الإيمان وأعمال الإيمان، من وراثة الكتاب؛ لأن المراد بوراثة الكتاب: وراثة علمه وعمله اهـ.

وفي الصحيحين عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وصيام رمضان؟ قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. قال فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق".

وعلى ذلك فلا بد من التمييز بين الفرائض والنوافل من أنواع الطاعات ودرجات الاستقامة، فالاستقامة على الفرائض فريضة، والاستقامة على النوافل فضيلة، ولذلك كان الناس ـ حتى أهل الطبقة الواحدة ـ متفاوتين في الدرجات، قال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (آل عمران: 163) وقال سبحانه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (الأنعام: 132) وقال عز وجل: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (الأحقاف: 19).

وإذا تبيَّن هذا، عرف السائل خطأه في حكمه بلزوم كل أنواع الطاعة فرضا ونفلا كشرط في حصول الاستقامة التي هي سبب لحصول الأرزاق الدينية والمعيشية.

والصواب أن النوافل ليست بفرض، وإن كانت في الوقت نفسه مطلوبة على سبيل الندب، وأنها سبب لرفعة العبد وعلو درجته في الاستقامة. قال ابن القيم في (الجواب الكافي): قال بعض السلف: إن من عقوبة السيئة السيئة بعدها، وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فالعبد إذا عمل حسنة قالت أخرى إلى جنبها: اعملني أيضا، فإذا عملها قالت الثانية كذلك وهلم جرا، فيتضاعف الربح وتزايدت الحسنات، وكذلك كانت السيئات أيضا حتى تصير الطاعات والمعاصي هيئات راسخة وصفات لازمة. اهـ.

وقال أيضا: فإن الله سبحانه وتعالى يعاقب على السيئة بسيئة أخرى وتتضاعف عقوبة السيئات بعضها ببعض، كما يثيب على الحسنة بحسنة أخرى فتضاعف الحسنات. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني