الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فواضح جدا ـ أيها الأخ الكريم ـ أنك تعاني من الوسوسة، فنسأل الله الكريم أن يشفيك مما تعانيه من الوسواس، وأن يتوفاك على الإسلام، ونصيحتنا أن تعرض عن الوساوس بالكلية، واعلم أن الخوف من الوقوع في الشرك والنفاق ليس مذموما إن سلم من الوسوسة، وقد كان الحسن البصري يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو يخاف من النفاق، وما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن. كذا في فتح الباري.
وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. رواه البخاري.
ولكن الشرع لا يكفر إلا من يعتقد اعتقادا مكفرا، أو من يقول أو يفعل مكفرًا، مع كونه عالمًا بكون هذا الاعتقاد أو القول أو الفعل من أعمال الكفر، وكذلك حال كونه عامدًا، وأما الغافل أو الناسي أو المخطئ فإن الله سبحانه يتجاوز عنهم، قال النووي في روضة الطالبين في كتاب الرِّدَّة: هي قطع الإسلام، ويحصل ذلك تارةً بالقول الذي هو كفرٌ، وتارةً بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمُّد واستهزاءٍ بالدِّين صريح كالسُّجود للصَّنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات. انتهى.
وطالما أنك لا تعلم من نفسك أنك فعلت ناقضًا من نواقض الإسلام عامدا عالما، فإنك على أصل التوحيد، فلا تلتفت لتلك الوساوس أبدًا، ولكن عليك أن تكثر من ذكر الله تعالى ومن الاستغفار كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يستغفر الله في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، وكثر من الدعاء الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليه أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ حيث قال له: والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم. رواه البخاري في الادب المفرد وصححه الألباني.
وما حصل منك من أمور شركية كنت تجهلها فأقلع عنها وتب إلى الله منها فوراً، وأنت ـ إن شاء الله ـ معذور لجهلك فيما سبق، إذ إن من شروط تكفير الشخص انتفاء الجهل عنه وإقامة الحجة عليه، كما نص على ذلك أهل العلم، ومن الأدلة على هذا ما حصل لقوم موسى من قولهم لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فرد موسى قائلاً كما حكى الله تعالى عنه في سورة الأعراف: إنكم قوم تجهلون، وكما حصل ذلك من بعض الصحابة حينما كانوا في طريقهم إلى غزوة حنين صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي سنن الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا يا رسول اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم.
ويدل له أيضا الحديث: كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه، ففعلت فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت، قال: يارب خشيتك فغفر له. رواه البخاري ومسلم.
وأما الاغتسال: فليس شرطا في صحة التوبة من الكفر بلا شك، ولهذا نص العلماء على أنه لا يجوز له تأخير الإسلام حتى يغتسل، قال النووي ـ رحمه الله: إذا أراد الكافر الإسلام فليبادر به ولا يؤخره للاغتسال، بل تجب المبادرة بالإسلام، ويحرم تحريما شديدا تأخيره للاغتسال وغيره، وكذا إذا استشار مسلما في ذلك حرم على المستشار تحريما غليظا أن يقول له أخره إلى الاغتسال، بل يلزمه أن يحثه على المبادرة بالإسلام، هذا هو الحق والصواب، وبه قال الجمهور. انتهى.
وأما وجوب الغسل على الكافر إذا أسلم فمحل خلاف بين العلماء، فمنهم من أوجبه مطلقا كالحنابلة، ومنهم من لم يوجبه مطلقا كالحنفية، ومنهم من فصل فأوجبه إذا أتى الكافر الأصلي أو المرتد بما يوجب الغسل حال كفره ولم يوجبه إذا لم يكن منه ما يوجب الغسل من جنابة ونحوها، وهم المالكية وهذا التفصيل هو الراجح ودليله مبين في الفتويين رقم: 147945 ورقم: 76190 فانظرهما.
وعلى هذا، فلا يطالب من لم يحكم بردته بالاغتسال، لأن الردة لا بد أن تثبت أولا، ومن ثبت إسلامه بيقين، فلا يزول إسلامه بالشك وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، ويتأكد هذا في حق الموسوس، وعليه أن يطرح هذه الأفكار ولا يجعل للشيطان عليه سبيلا، فإن الوسوسة مرض شديد وداء عضال والاسترسال معها يوقع المرء في الحيرة والشك المرضي، والضيق والحرج الشرعي، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 8106.
ثم إن الواجب على من شك في حرمة شيء، أو حصول ردة من فعله شيئا معينا، أن يسأل أهل العلم ليبينوا له الحجة، ويوضحوا له المحجة، ويزيلوا عنه الشبهة، فتطمئن نفسه ويهدأ فؤاده، كما قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ {النحل: 43}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وصححه الألباني.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: يلزم كل مؤمن ومؤمنة إذا جهل شيئا من أمر دينه أن يسأل عنه. هـ.
ولكن تكفير المعين لا يحصل إلا بعد استيفاء الشروط وانتفاء الموانع، ومن ذلك أن يكون بالغاً عاقلاً مختاراً غير معذور بجهل أو تأويل فيما يكون فيه الجهل والتأويل عذراً، وقد تقرر في الشريعة أن من ثبت إسلامه بيقين فلا يزول إسلامه بالشك وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فلا يكفر المسلم إلا إذا أتى بقول أو بفعل أو اعتقاد دل الكتاب والسنة على كونه كفراً أكبر مخرجا من ملة الإسلام، أو أجمع العلماء على أنه كفر أكبر، ومن وقع منه ناقض للإسلام يستوجب كفره ثم تاب منه بقلبه وصلى فيحكم بإسلامه، لأن الصلاة متضمنة للشهادتين، كما بينا ذلك في الفتوى رقم: 148723 أنه يحكم عليه بالإسلام بمجرد الصلاة، وذكرنا قول صاحب الروض المربع معلقا على قول صاحب زاد المستقنع: فإن صلى فمسلم حكما ـ فإن صلى الكافر على اختلاف أنواعه في دار الإسلام، أو الحرب جماعة، أو منفردا بمسجد أو غيره فمسلم حكما، فلو مات عقب الصلاة فتركته لأقاربه المسلمين ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابرنا. اهـ.
والله أعلم.