الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فههنا حقائق لا بد لنا من أن نبدأ بها الإجابة على هذا السؤال فنقول:
أولا: ما دام الله سبحانه خالقا لهذا الكون فهذا يستلزم أن يكون موصوفا بكل كمال ومنزها عن كل نقص، فهذا الخلق البديع وهذا النظام العجيب لا يمكن أن يصدر إلا عمن هو في غاية الكمال في الأوصاف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مطلع رسالته الأكملية -وهي ضمن الجزء السادس من مجموع الفتاوى- قال: الكمال ثابت لله، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة، وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه. اهـ.
ثانيا: أن القرآن مشتمل على كثير من الأدلة العقلية، فالإسلام دين أدلة وبراهين ويخاطب العقل السليم ليرشده إلى الصراط المستقيم، ولذلك تختم كثير من الآيات بمثل قوله سبحانه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. أو( لقوم يتفكرون) أو لأولي النهى. أي أصحاب العقول السليمة. فلا غرابة إذن في الاستدلال بالقرآن على أمور عقلية.
قال ابن تيمية في موضع آخر من رسالته السابقة: ودلالة القرآن على الأمور نوعان: أحدهما: خبر الله الصادق، فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به، والثاني : دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب، فهذه دلالة شرعية عقلية، فهي شرعية لأن الشرع دل عليها، وأرشدنا إليها، وعقلية: لأنها تعلم صحتها بالعقل، ولا يقال: إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر، وإذا أخبر الله بالشيء ودل عليه بالدلالات العقلية صار مدلولا عليه بخبره، ومدلولا عليه بدليله العقلي الذي يعلم به، فيصير ثابتا بالسمع والعقل، وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى "الدلالة الشرعية". اهـ.
وبالنسبة لعلم الرب تعالى فمقتضى كماله وقيوميته أن يكون علمه محيطا بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء من أمر خلقه، ليدبر أمرهم ويقوم عليه أكمل قيام، وإذا كانت السنة والنوم نقص في حق الله تعالى لما يقتضيه الاتصاف بهما من النقص المؤقت للإدراك الذي يفوت كمال القيومية فما بالك بعدم العلم أصلا الذي هو محض الجهل. قال الله تعالى واصفا نفسه في أعظم آية من كتابه: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ (البقرة:255).
كما أن القول بمحدودية علمه يقتضي وصفه بالجهل، والجهل صفة نقص ينزه الرب الخالق عنها.
قال ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس: وقد ذهب أكثر الفلاسفة إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا وإنما يعلم نفسه، وقد ثبت أن المخلوق يعلم نفسه ويعلم خالقه فقد زاد مرتبة المخلوق على رتبة الخالق. قال المصنف: وهذا أظهر فضيحة من أن يتكلم عليه فانظر إلى ما زينه إبليس لهؤلاء الحمقاء مع ادعائهم كمال العقل، وقد خالفهم أبو علي بن سينا في هذا فقال: بل يعلم نفسه ويعلم الأشياء الكلية ولا يعلم الجزئيات، وتلقف هذا المذهب منهم المعتزلة وكأنهم استكثروا المعلومات، فالحمد لله الذي جعلنا ممن ينفي عن الله الجهل والنقص.اهـ.
وأما الكذب فهو أمر مذموم يتنزه العقلاء من الناس عن أن يتصفوا به فكيف يتصف به الخالق سبحانه؟!! فهو صادق، والصدق من صفات كماله.
وقولك: هل يمكن للخالق أن يكذب...؟ إن كنت تقصد به القدرة فهو على كل شيء قدير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى عند قول الله تعالى في الحديث القدسي: إني حرمت الظلم على نفسي...الحديث رواه مسلم، قال - رحمه الله -: فهذا الظلم الذي حرمه على نفسه هو ظلم بلا ريب وهو أمر ممكن مقدور عليه وهو سبحانه يتركه مع قدرته عليه بمشيئته واختياره، لأنه عادل ليس بظالم، كما يترك عقوبة الأنبياء والمؤمنين، وكما يترك أن يحمل البريء ذنوب المعتدين. اهـ.
وقول القائل: مستغلا ضعف المخلوقات بحيث لا يمكنها اكتشاف أي كذبة لا في الدنيا ولا في الآخرة بحكم محدودية قدراتها؟". هذا الكلام لا يليق بالخالق المدبر القوي المتين، بل يتصور في مخلوق ضعيف يخشى أن يكتشف أمره إن أتى بخديعة ونحو ذلك.
ولم نفهم المقصود بالشق الأخير وهو قوله:" هل يمكن أن يكون للخالق صفة ناقصة عن الصفات الموجودة في مخلوقاته، كصفة التنقل مثلا؟" ولعل المقصود به الاتصاف ببعض صفات النقص الموجودة في المخلوق؟ فجوابه يعلم مما سبق من أنه لا يمكن أن يكون في الرب صفة من صفات النقص وإلا لم يكن ربا.
الانتقال إن كان مقصودا به الإشارة إلى بعض صفات الأفعال كالنزول والإتيان والمجيء ونحوها، فهذه الصفات ثابتة لله تعالى، وهي صفات كمال، لأنه إن لم تثبت له اقتضى وصفه بالجماد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة التدمرية، ولفظ الانتقال لم يرد في الكتاب والسنة في حق الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا، وقاعدة أهل العلم أن يستفصل قائله، لأنه قد يريد به معنى حقا وقد يريد به معنى باطلا.
قال ابن أبي العز الحنفي في شرحه على العقيدة الطحاوية: والله سبحانه وتعالى يُوصف بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأحرف القرآنية، أو الأحرف والكلمات النبوية، فلا بد من الاقتداء بالكلمات القرآنية والكلمات النبوية. وأما الأحرف الحادثة التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة، والمجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً؛ فإن مذهب السلف فيها التوقف في لفظها والتفصيل في معناها. وعليه: فكل لفظ مجمل حادث فإنه لا يُطلق إثباتاً ولا نفياً؛ بل يُستفصل عن معناه، فإن أريد به ما هو حق قُبل، وإن أُريد به ما هو باطل رُدّ، وأما اللفظ فيتوقف فيه؛ فإن كان المعنى حقاً عبر بالألفاظ والكلمات الشرعية. هذه هي القاعدة في الألفاظ المجملة الحادثة.اهـ.
ونختم بكلام حسن لإسحاق ابن إبراهيم الحنظلي، وهو الملقب بإسحاق بن راهويه حيث قال: لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين؛ لقول الله تعالى: لايسأل عما يفعل وهم يسألون. سورة الأنبياء 23 ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر فيه من أمر المخلوقين، وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما شاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما شاء كما شاء. اهـ.
والله أعلم