الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه المسألة من النوازل المعاصرة، وقد اختلفت فيها أنظار أهل العلم والفتوى، والذي صرح به أكثرهم هو جواز ذلك إن تعلقت به مصلحة معتبرة، بشرط أن لا يصل الأمر إلى الموت أو مرحلة الخطر.
قال الدكتور يوسف القرضاوي عندما سئل عن إضراب الأسير: لا بأس للأسير باللجوء إلى هذا الإضراب، ما دام يرى أنه الوسيلة الفعالة والأكثر تأثيرا لدى الآسرين، وأنه الأسلوب الذي يغيظ الاحتلال وأهله، وكل ما يغيظ الكفار فهو ممدوح شرعا، كما قال تعالى في مدح الصحابة: {يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} (الفتح: 29). وقال في شأن المجاهدين: {ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح} (التوبة:120) فإذا كان هذا الأسلوب يغيظ الكفار، ويسمع صوت الأسرى المظلومين والمهضومين والمنسيين إلى العالم، ويحيي قضيتهم، ويساعدهم على نيل حقوقهم، فهو أمر مشروع، بل محمود، بشرط ألا ينتهي إلى الهلاك والموت، فالمسلم هنا يتحمل ويصبر إلى آخر ما يمكنه من الصبر والاحتمال، حتى إذا أشرف على الهلاك بالفعل، قَبِل أن يأكل، وأن ينجي نفسه من الموت. فإن نفسه ليست ملكا له، وقد قال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} (النساء:29). اهـ.
وللدكتور عبد الله بن مبارك آل سيف بحث بعنوان: (حكم الإضراب عن الطعام في الفقه الإسلامي) قال في تلخيص أهم نتائجه: الإضراب عن الطعام من الأمور الجديدة التي لم تعرف في تاريخ الأمة وهو: الامتناع عن بعض أو كل أنواع الطعام أو الشراب أو هما معاً، مدة محددة أو مفتوحة للمطالبة بحقٍ ما لدى طرف ثان، وأن له أنواعاً عدة وصوراً متنوعة ... أما حكمه فقد اختلف العلماء في حكمه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: التحريم المطلق. والثاني: الجواز المطلق. والثالث: التفصيل، وهو قول جمهور العلماء المعاصرين: أنه يجوز ما لم يصل لمرحلة الخطر أو الموت. وعند الترجيح تبين رجحان القول الثالث القائل بالتفصيل. اهـ.
وبناء على الخلاف في الترجيح يكون الخلاف في حكم من مات مصرا على الإضراب برغم علمه بإشرافه على الهلاك وبلوغه مرحلة الخطر.
وأما أثر عبدالله بن حذافة فقد ضعفه الألباني، وراجع تخريجه في (الإرواء 2515 ).
وأما انطباق هذا الأثر ـ إن صحَّ بهذا السياق الذي ذُكِر فيه الخمر والخنزير ـ على أسرى فلسطين في السجون الصهيونية ؟ فهذا أيضا محل نظر وبحث، وقد يختلف باختلاف غاية المضرب وحاله. غير أنه لا بد من الانتباه إلى أن عبد الله بن حذافة رضي الله عنه إنما فعل ذلك لئلا يشمتهم بالإسلام، لا لأجل توسعة العيش ونحو ذلك، ثم إنه قد طلِب منه أن يتنصر ويترك دين محمد صلى الله عليه وسلم !! وعلى أية حال فالمسألة محل نظر واجتهاد وأخذ وردٍّ . وقد استدل بعض الفقهاء بهذا الأثر على أن أكل المضطر من الميتة لا يجب وإنما يجوز، فيسعه عدم الأكل.
قال ابن قدامة في المغني: هل يجب الأكل من الميتة على المضطر ؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب. وهو قول مسروق وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي. قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة, ولم يأكل ؟ فذكر قول مسروق: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار. وهذا اختيار ابن حامد; وذلك لقول الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}. وترك الأكل مع إمكانه في هذا الحال إلقاء بيده إلى التهلكة, وقال الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}. ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله له فلزمه, كما لو كان معه طعام حلال. والثاني: لا يلزمه; لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طاغية الروم حبسه في بيت, وجعل معه خمرا ممزوجا بماء, ولحم خنزير مشوي, ثلاثة أيام, فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش, وخشوا موته فأخرجوه, فقال: قد كان الله أحله لي لأني مضطر, ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام. ولأن إباحة الأكل رخصة, فلا تجب عليه, كسائر الرخص. ولأن له غرضا في اجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة, وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة, وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه. اهـ.
وجاء في (الموسوعة الفقهية) : ذهب الحنفية - في ظاهر الرواية - والمالكية والشافعية - في أحد الوجهين - والحنابلة - على الصحيح من المذهب - إلى أن المضطر يجب عليه أكل الميتة. وقالوا: إن الذي يخاف الهلاك من الجوع والعطش إذا وجد ميتة أو لحم خنزير أو دما فلم يأكل ولم يشرب حتى مات وهو يعلم أن ذلك يسعه كان آثما ... وقال كل من الحنابلة والشافعية - في وجه - وأبو يوسف - في رواية عنه - إن المضطر يباح له أكل الميتة, ولا يلزمه, فلو امتنع عن التناول في حالة الضرورة ومات فلا إثم ولا حرج عليه, لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكروا الأثر. اهـ.
وأما السؤال: هل يفتي الأسرى أنفسهم، وهم يقدرون ضرورة ما يفعلون، أم يجوز للقاعد أن يفتي للمجاهد حتى إن كان قعوده بعذر؟
فخلاصة جوابه أن من كان فقيها في دينه، مؤهلا للفتوى، فإنه يفتي نفسه وغيره، سواء أكان من المجاهدين أو من القاعدين، ومن لم يكن فقيها في دينه ولا مؤهلا للفتوى فلا يفتي لا نفسه ولا غيره، سواء أكان من المجاهدين أو من القاعدين.
هذا مع ضرورة الانتباه إلى أن إقامة الجهاد وطلب العلم قد يشغل أحدهما عن الآخر فلا يجتمعان، فيحتاج المجاهد إلى من يتفقه في الدين ليعلمه ما يحتاجه، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122].
قال السعدي: يقول تعالى منبها لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي: جميعا لقتال عدوهم، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ} أي: من البلدان والقبائل والأفخاذ {طَائِفَةٌ} تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى. ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم، فقال: {لِيَتَفَقَّهُوا} أي: القاعدون {فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} أي. ليتعلموا العلم الشرعي، ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ... اهـ.
والله أعلم.