الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن العبد إذا أذنب ذنبًا نكت في قلبه نكتة سوداء، وهكذا حتى يسود القلب ويعلوه الران، فالواجب المسارعة إلى التوبة، والإقلاع عن هذه المعاصي التي توجب مقت الله، وفساد القلب وقسوته, وانطفاء نوره توبة صادقة يندم فيها على ما قدم ويقلع إقلاعًا تامًا, ويعزم عزمًا أكيدًا على عدم العودة.
واعلم أن من أدمن النظر إلى الصور المحرمة قاده ذلك إلى الوقوع فيما هو أعظم وأقبح كالزنا واللواط، عياذًا بالله من ذلك, وقد قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [النور:30], ومن أهم أسباب حفظ الفرج غض البصر.
وأما سؤالك عن الحال التي ذكرت مع هذه المعصية من توبة وعودة وهكذا, فاعلم أن من تاب وأتى بشروط التوبة التي بيناها في الفتوى رقم: 5450, فإن الله تعالى يقبل توبته ويغفر ذنبه بفضله وكرمه, ثم إن عاد العبد بعد ذلك ووقع في الذنب فتاب بشروطه غفر الله له أيضًا وهكذا, فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: أذنب عبد ذنبًا فقال: اللهم اغفر لي ذنبي, فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب, ويأخذ بالذنب, ثم عاد فأذنب, فقال: أي رب اغفر لي ذنبي, فقال تبارك وتعالى: عبدي أذنب ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب, ثم عاد فأذنب, فقال: أي رب اغفر لي ذنبي, فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبًا فعلم أن له ربًا يغفر الذنب, ويأخذ بالذنب, اعمل ما شئت فقد غفرت لك, قال عبد الأعلى: لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة اعمل ما شئت" رواه مسلم, وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
وأما الاصرار الذي تصبح به الصغيرة كبيرة: فهو ما لم يتب منه صاحبه, أو ما أشعر باستهانته به, وقلة مبالاته, قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حد الإصرار هو: أن تتكرر منه الصغيرة تكرارًا يشعر بقلة مبالاته بدينه.
وعلى هذا؛ فالذي تتكرر منه الصغيرة على وجه يوحي بقلة مبالاته بدينه تصير في حقه كبيرة؛ ذلك أن الاستخفاف بالمعصية - ولو صغرت - صفة للفجرة, قال ابن مسعود:إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه, وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه, فقال به هكذا, قال أبو شهاب: بيده فوق أنفه. رواه البخاري, وانظر فتوانا رقم: 29665.
أما إن كنت تغلب على المشاهدة مع التضايق من ذلك والخوف من الذنب ولوم النفس على ذلك فهي صغيرة, لكن عليك التوبة منها, وكثرة عمل الصالحات, فإن الحسنات يذهبن السيئات.
وأما تذكر الذنب بعد التوبة فعلى حالتين: قال الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر في معرض كلامه عن تجديد التوبة عن المعصية كلما ذكرها صاحبها بعد التوبة، وهل يجب تجديدها؟: وقال إمام الحرمين: لا يجب ذلك لكنه يستحب، قال الأذرعي في توسطه: ويشبه أن يقال إن كان حين تذكره للذنب تنفر نفسه فما اختاره الإمام ظاهر، وإن كانت لا تنفر منه، وتلتذ بذكره، فذلك معصية جديدة تجب التوبة منها. انتهى
فإن كنت لا تلتذ بذلك ولا تستجلبه, بل يطرأ عليك فلا حرج عليك؛ لأن الله تعالى تجاوز عن حديث النفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي بما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل. متفق عليه, بل قد يحمد إن صحبه انكسار وندم واستغفار, ولكن احذر، فإن تذكر الذنب بين الفينة والأخرى والتفات القلب إليه قد يجعل الإنسان يحن إلى الذنب، فلا بد في هذه الحالة من نسيان الذنب أو تناسيه, وقطع الاسترسال في تفكره, قال سبحانه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأعراف:200), وانظر فتوانا رقم: 54998.
وفي خصوص الشعور بالشهوة: فإن كان يأتي فجأة بدون استجلاب ولا استرسال فيه فإنه مما يتجاوز عن العبد فيه -كما تقدم ذكره- وإن كان المرء يستجلب رؤية تلك المناظر التي في ذاكرته ويسترسل معها حتى تفور فيه الشهوة ويتلذذ بذلك فإن هذا حرام, ومناقض للندم.
واعلم أخي أن مما يعين على التوبة ألا يسمح المرء لنفسه بفتح المواقع الإباحية، أو الرسائل التي تتضمن صورًا إباحية مهما كانت الظروف، ويغلق الجهاز ويخرج، أو ينصرف إلى عمل آخر إذا لزم الأمر, ومما يعين أيضًا ألا يتصفح الإنترنت إلا ومعه غيره من أهل الصلاح ممن لا يعينه على هذا الفعل القبيح, ومن أهم المعينات: الدعاء, وسؤال الله العفاف، وكذلك الإسراع بالزواج، فقد قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. رواه البخاري ومسلم.
والله أعلم.