الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد:
فالاستنجاء: إما أن يكون بالماء, وضابطه: أن يغسل المحل حتى تزول عين النجاسة وأثرها، وإما بالحجارة وما في معناها - كالمناديل ونحوه - بشرط إنقاء المحل, وألا يقل عدد المسحات عن ثلاث, فالمقصود من الاستنجاء قطع الخارج وتطهير محله, ومجرد بلّ اليد ومسح الذكر بها لا يحصل به الاستنجاء, كما بيناه في الفتوى رقم: 119623, والفتوى رقم: 72999.
وأما لماذا لا يصح هذا, ويصح المسح بالمنديل؟ فجوابه من عدة وجوه:
منها: أن استعمال اليد بتلك الطريقة هو في حقيقته استنجاء باليد لا بالماء, وقد نص الفقهاء على المنع من ذلك, بخلاف المنديل, فإنه يجوز الاستنجاء به, جاء في الأشباه والنظائر للسيوطي: فائدة: صححوا أن الاستنجاء بيد نفسه ويد غيره بدل الحجر لا يجزئ... اهـ
وقال ابن قدامة في المغني فيما لا يجوز الاستنجاء به: وَلَا يَجُوزُ بِمُتَّصِلٍ بِحَيَوَانٍ, كَيَدِهِ, وَعَقِبِهِ, وَذَنَبِ بَهِيمَةٍ, وَصُوفِهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا ... اهــ .
ومنها: أن اليد مبلولة, والاستنجاء بالمبلول - ولو كان منديلًا - لا يجزئ؛ لأنه ينشر النجاسة, قال الحطاب المالكي في مواهب الجليل: وَمِثْلُ الِاسْتِنْجَاءِ بِالنَّجِسِ الِاسْتِجْمَارُ بِالْمَبْلُولِ فَإِنَّهُ يَنْشُرُ النَّجَاسَةَ... اهــ .
وقال الرملي في نهاية المحتاج: ولو استنجى بحجر مبلول لم يصح استنجاؤه؛ لأن بلله يتنجس بنجاسة المحل, ثم ينجسه, فيتعين الماء. فالمسح بالمنديل لا تنتشر به النجاسة؛ لكون المنديل جافًّا, بخلاف البلل الذي في اليد فهو ليس ماء واردًا على النجاسة يسيل, ويذهب بها, بل مجرد بلل, وإذا لاقى النجاسة نشرها على ما يلاقيه من الجسد؛ ولهذا فإن ما يُستجمر به نفسه - كالمنديل والحجر ونحوهما - لو كان مبلولًا لا يصح الاستنجاء به, كما أن المسح بالمنديل ونحوه لا يجزئ إذا انتشر الخارج عن محله المعتاد, وحديث: "وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ" حديث صحيح متفق عليه, ومعناه: أن لا يستعمل يده في عملية الاستنجاء، بل يكتفي باستعمال شماله, جاء في مرقاة المفاتيح: فإن قيل: كيف يستنجي بالحجر؟ فإن أخذه بشماله والذكر بيمينه فقد مس ذكره بها وهو منهي عنه, وكذلك العكس؟ قلنا: طريقه أن يأخذ الذكر بشماله, ويمسحه على جدار أو حجر كبير بحيث لا يستعمل يمينه في ذلك أصلًا... اهـ .
وقال الحافظ في الفتح: يُمِرّ الْعُضْو بِيَسَارِهِ عَلَى شَيْء يُمْسِكهُ بِيَمِينِهِ وَهِيَ قَارَّة غَيْر مُتَحَرِّكَة, فَلَا يُعَدّ مُسْتَجْمِرًا بِالْيَمِينِ, وَلَا مَاسًّا بِهَا... اهــ. وانظر الفتوى رقم: 120210 عن الطريقة الصحيحة للاستنجاء.
وإذا لم يصح استنجاؤك بتلك الطريقة فإن العلماء مختلفون في صحة الوضوء قبل الاستنجاء, فمنهم من يرى عدم صحته, ومنهم من يرى صحته, وهذا مذهب الشافعية, وإحدى الروايتين عند الحنابلة, وصححها ابن قدامة, قال ابن قدامة في المغني: لَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ لَمْ يَصِحَّ كَالتَّيَمُّمِ, وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَصِحُّ الْوُضُوءُ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ، وَيَسْتَجْمِرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَحْجَارِ، أَوْ يَغْسِلُ فَرْجَهُ بِحَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ, وَلَا يَمَسُّ الْفَرْجَ, وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَصَحُّ، وَهِيَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهَا إزَالَةُ نَجَاسَةٍ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ لِصِحَّةِ الطَّهَارَةِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْفَرْجِ. اهــ
وقال النووي في روضة الطالبين: ينبغي أن يستنجي قبل الوضوء والتيمم, فإن قدمهما على الاستنجاء صح الوضوء دون التيمم على أظهر الأقوال.. اهــ.
ثم على القول ببطلان الوضوء فالأمر واضح.
وعلى القول بصحته يبقى النظر في كونك كنت تصلي مع وجود النجاسة، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه يجب عليك قضاء تلك الصلوات؛ لأنها لم تؤد على الوجه الصحيح, وهي دين في ذمتك, ودين الله أحق أن يقضى، وذهب البعض إلى أن من ترك شرطًا أو ركنًا من شروط الصلاة وأركانها جهلًا به لم يلزمه القضاء، وانظر للاطلاع على طرف من هذا الخلاف الفتويين رقم: 109981, ورقم: 125226.
والله تعالى أعلم.