السؤال
بارك الله فيكم وتقبل منكم، وجزاكم خيرا، لما سمعت حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في البخاري، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم سَتَرَه اللهُ فهو إلى اللهِ، إن شاء عَفا عنه، وإن شاء عاقَبَه ) وكذلك قول ابن عباس - رضي الله عنهما- في البخاري عن أواخر سورة الفرقان " لـما أنزل الله التـي فـي الفرقان, قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التـي حرّم الله, ودعونا مع الله إلها آخر, فقال: إلاّ مَنْ تابَ وآمَنَ وَعمِلَ عَمَلاً صالِـحا... الاَية. فهذه لأولئك." بدأ يدخل في قلبي اليأس، وصرت أتساءل هل للعاصين من المسملين مثلي توبة؟ وهل تبديل السيئات حسنات خاص بالمشركين إذا أسلموا أم عام للناس ومنهم المسلمون المذنبون، ولا أعني هذه الذنوب خاصة وإنما غيرها؟
كيف يتوب الإنسان ويثبت على التوبة؟ ابتليت بذنب ولما يعود لي رشدي أتوب منه، ثم إذا ضعفت عدت إليه، ثم أتوب، ثم أعود، ثم أتوب وأكره نفسي على ما فعلته.
أحيانا أضرب نفسي أو أقرصها لماذا تعصي الله؟ أتذكر بني إسرائيل (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) لا أدري ماذا أفعل، هل يقبل الله توبة الذين يعودون للذنب مراراً عديدة، والله يقول (ولم يصروا على مافعلوا وهم يعلمون).
أحب الله، وأخاف من مقته.
جزاكم الله خيراً، وعفا عنا وعنكم ووالدينا وجميع المسلمين.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأما حديث عبادة -رضي الله عنه- فإنه في حق من مات مصرا على الذنب، وأما من تاب فإن الله تعالى يقبل توبته، ويقيل عثرته. وإذا كان من تاب من الشرك فإن الله يغفر له، فكيف بأهل الإسلام إذا تابوا من معاصيهم.
والنصوص في هذا كثيرة مشهورة، وحسبك قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}. وقال صلى الله عليه وسلم: التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
فمن تاب توبة نصوحا مستوفية لشروطها، فإن الله يقبلها ويمحو عنه أثر ذلك الذنب؛ وانظر الفتوى رقم: 188067.
وتبديل السيئات حسنات ليس خاصا بالمشركين التائبين من شركهم، ويدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن المعرور بن سُويد عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل الْجَنَّة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها: رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أْن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياءَ لا أراها [هاهنا] "، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.
ثم إن هذا التبديل هل معناه أنهم يبدلون بأعمالهم القبيحة التي عملوها حال الشرك والمعصية أعمالا أخرى صالحة مكانها بعد التوبة، فيكون التبديل في الدنيا، أو هو تبديل في الآخرة بحيث تمحى السيئة وتثبت مكانها حسنة؟ في هذا خلاف مشهور، وقد طول ابن القيم النفس في بسطه بما تمكنك مراجعته في كتابه طريق الهجرتين.
ومن أذنب فتاب، ثم عاد إلى الذنب، فلا ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمة الله، بل عليه أن يكرر التوبة، ومهما صدقت توبته فإن الله يقبلها مهما تكرر منه الذنب، ولا يزال الله يتوب عليه ولا يغلق في وجهه بابه ما دام كلما أذنب تاب، لكن عليه أن يخلص في توبته، وأن يحرص على عدم العودة إلى الذنب ما أمكنه، فإن غلبته نفسه فعاد، فليعد وليتب وربه غفور رحيم؛ وانظر الفتوى رقم: 134323
ومما يعينك على الثبات على التوبة: الاجتهاد في الدعاء، وذكر الله تعالى، ودوام مراقبته سبحانه، واستحضار عظمته وصفات جلاله، وإدمان الفكرة في الموت وما بعده، وتخير أصحاب الخير من الصالحين الذين يعينونك على طاعة الله تعالى.
رزقنا الله وإياك التوبة النصوح.
والله أعلم.