الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الكفر المخرج من الملة لا يدخله النسخ والتبديل

السؤال

هل يوجد في الشريعة فعل معين كان جائزا، أو معصية، ثم تغير حكمه وصار كفرا مخرجا من الإسلام؟ وما معنى هذا الكلام للإمام القرافي في كتابه الفروق: ( استحال في عادة الله أن يأمر بما هو كفر في بعض المواطن؛ لقوله تعالى : " ولا يرضى لعباده الكفر " أي: لا يشرعه ديناً. ومعناه أن الفعل المشتمل على فساد الكفر لا يؤذن فيه ولا يُشرع، فلا يقال: إن الله شرع ذلك. وحقيقة الكفر في نفسه معلومة قبل الشريعة وليست مستفادة من الشرع، ولا تبطل حقيقتها بالشريعة، ولا تصير غير كفر ) اهـ. الفروق. وهل فعل الكفر لا يصح دخول النسخ عليه؛ لأنه لا نسخ في مسائل الوعد والوعيد؟ وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالكفر المخرج من الملة لا يرد عليه النسخ والتبديل، ذلك أن الشرائع كلها مجمعة على تحريم الكفر.

قال السبكي في فتاواه: فالشرائع كلها متفقة على تحريم الكفر ... اهـ.

وقال الجصاص في الفصول: إن العبادات ( قد ) ترد من الله تعالى على أنحاء ثلاثة:

واجب في العقل: فيرد الشرع بإيجابه، تأكيدا لما كان في العقل من حاله، وذلك نحو التوحيد، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وشكر المنعم، والإنصاف، وما جرى مجراه.

والثاني: محظور في العقل: فيرد الشرع بحظره، تأكيدا لما كان في العقل من حكمه، قبل وروده، نحو: الكفر، والظلم، والكذب، وسائر المقبحات في العقول، وهذان البابان لا يجوز ورود الشرع فيهما خلاف ما في العقل . ولا يجوز فيهما النسخ والتبديل . ... اهـ.

وقال الغزالي في المستصفى: أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة، ولسنا نعني به ذلك، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو: أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة .... وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق؛ ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتال، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر. اهـ.

وأما كلام القرافي فهو يدل على هذا الأمر، وقد جاء فيه الفرق بين السجود للصنم الذي هو كفر وبين السجود للأب تعظيما له، وقد قال ابن الشاط في شرحه موضحا الفرق بينهما: الفرق بين السجود للصنم على وجه التذلل والتعظيم له، اتفق الناس على أنه كفر، وبين السجود للوالدين، والأولياء، والعلماء، تعظيما وتذللا، اتفقوا على أنه ليس بكفر: هو أن السجود للأصنام ليس لمجرد التذلل والتعظيم، بل له مع اعتقاد أنه آلهة، وأنهم شركاء لله تعالى، حتى اقتضى بذلك الجهل بالربوبية، بخلافه للوالدين، والأولياء، والعلماء، فإنه لما كان لمجرد التذلل والتعظيم، لا لاعتقاد أنهم آلهة وشركاء لله عز وجل، لم يكن كفرا، وإن كان ممنوعا سدا للذريعة، نعم، لو وقع مع الوالد، أو العالم، أو الولي على وجه اعتقاد أنه إله وشريك لله تعالى، لكان كفرا لا شك فيه ...

والوصف المفرق أن سجود من سجد للأصنام لم يسجد لها لمجرد التذلل والتعظيم، بل لذلك مع اعتقاد أنها آلهة، وأنها شركاء لله تعالى، ولو وقع مثل ذلك مع الوالد أو العالم، أو الولي، لكان ذلك كفرا لا شك فيه، وأما إذا وقع ذلك أو ما في معناه مع الوالد لمجرد التذلل والتعظيم لا لاعتقاد أنه إله وشريك لله عز وجل، فلا يكون كفرا وإن كان ممنوعا سدا للذريعة . .. اهـ.

ومثل السجود للأب تعظيما ما ورد من سجود في الأمم السابقة لآدم أو يوسف عليهما السلام، فليس السجود فيه سجود عبادة ولكنه سجود التحية، وهذا قد نسخ في شريعتنا وأصبح الانحناء للمخلوق محرما، ولكنه لا يعد كفرا إلا إذا قصد به سجود العبادة وتعظيم المخلوق كتعظيم الله تعالى.

قال ابن كثير- رحمه الله- في تفسيره: وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجعل السجود مختصاً بجانب الرب سبحانه وتعالى، هذا مضمون قول قتادة وغيره، وفي الحديث أن معاذاً قدم الشام، فوجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا يا معاذ؟. فقال: إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله، فقال: لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، لعظم حقه عليها. . انتهى كلامه رحمه الله.
وقال البجيرمي في حاشيته: الانحناء لمخلوق كما يفعل عند ملاقاة العظماء، حرام عند الإطلاق، أو قصد تعظيمهم لا كتعظيم الله، وكفر إن قصد تعظيمهم كتعظيم الله تعالى. اهـ.

وقال ابن علان الشافعي: من البدع المحرمة الانحناء عند اللقاء بهيئة الركوع. أما إذا وصل انحناؤه للمخلوق إلى حد الركوع قاصداً به تعظيم ذلك المخلوق كما يعظم الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن صاحبه يرتد عن الإسلام ويكون كافراً بذلك، كما لو سجد لذلك المخلوق.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني