الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

القول الصحيح في أدنى السر في قراءة الصلاة، وحد الركوع المجزئ

السؤال

أعاني من تعب كثير فيما يخص الصلاة والوضوء، فمنذ سمعت أن وجود أوساخ على اليد يمنع الماء من الدخول أصبحت أخاف، فأنا أقص أظافري يوميا، وأغسل يدي قبل كل وضوء أكثر من مرة، وقد سمعت أن وجود الأوساخ تحت الأظافر لا بأس به، لكن هناك أوساخ على الأظافر نفسها، وهذا يحدث يوميا، وأرى أن كل من حولي أظافرهم متسخة، أتحدث عن الجهة التي تقص منها الأظافر من فوق، فدائما تبقى عليها طبقة سوداء، وأصبحت أخاف أن ألبس الحذاء، لأنه قد يوسخ أظافر أصابعي، مصابة بملل من هذا، كنت بخير قبل الاطلاع على هذه الفتاوى، وآخذ وقتا طويلا جدا في الوضوء، وأصرف ماء كثيرا، ومن كثرة قصي لأظافري جرحت، وبها شقوق آخذ وقتا لإدخال الماء لكل هذا فهل لا بد من هذا؟ وخاف أن أجرح، والدم نجس، وكما سمعت فإن الشيء النجس إذا أصبح رطبا فسينقل النجاسة لغيره، فماذا أفعل إذا كنت مجروحة وأريد الوضوء؟ وماذا إن لامس الجرح ملابسي؟ وهل الدم وحده نجس؟ أم الجرح نفسه؟ بصراحة أصبحت أكره الفتاوى والاطلاع عليها، فقد جلبت لي شرا كثيرا، فمنذ أن أسمع بشيء لا أعرفه من قبل أصاب بخوف شديد منه، كما أن أمر انتقال النجاسة، هذا أصبح يوميا فمثلا عند الاستنجاء أشعر بارتداد الماء علي من الحمام، فهل انتقلت النجاسة؟ وأحيانا أقول لنفسي لا أظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغسل يديه قبل الوضوء ولا يقص أظافره لهذه الدرجة ولا ينظفها قبل كل وضوء، ولا أظن أنه كان يدقق في أمور النجاسة لهذه الدرجة فلماذا أفعل كل هذا؟ أقضي غالبا نصف ساعة لكل وضوء، كما أن الغسل قد آخذ فيه ساعتين خوفا من وجود ما يمنع الماء، وهناك السرة وتراكم الأوساخ فيها، فمنذ سمعت أن وجود الأوساخ عليها يبطل الغسل أصبحت أدقق فيها كثيرا وأحيانا يخرج منها دم، فكيف تصلون وتغتسلون؟ أعرف شيوخا يتوضؤون في دقيقتين، فكيف يكون هذا؟ وهل لا تبالون بما تقولونه للناس في الفتاوى؟ بالإضافه إلي أنني مصابة بوسواس الصلاة، فالصلاة تأخذ ساعة، فهذه تقريبا خمس ساعات، وأحيانا عندما أكون متوترة يأخذ ساعة ونصف، أشعر أنني لا أنطق جيدا وأحس أن لساني ثقيل ولا أجيد القراءة سرا بصوت مسموع، وهذا ما سمعته من فتوى أن الواحد لا بد أن يسمع صوته في القراءة السرية مع أنني كنت أفعل هذا قبل سماع الفتوى، وأواجه صعوبة في الدخول في الصلاة وفي تكبيرة الإحرام، فكلمة الله أكبر دائما تخرج جهرا، ومنذ سمعت أن صوت المرأة عورة ولا يجوز أن يسمعها أحد أصبحت أخاف، تأتيني أوهام أنني لن أتمكن من قولها مع أن هذا غير صحيح، فبمجرد ما أنتهي من صلاة الفرض وأصلي النوافل تذهب كل تلك الأوهام وأصلي بكل هدوء وأتمكن من الصلاة بصوت منخفض، أظن أنني من كثرة حرصي على عدم فعل أي شيء يبطل الصلاة أصبحت أصاب بهذا الرعب من الصلاة، وفي الانحناء للركوع أصبحت آخذ فيه وقتا كثيرا أخاف أنني لا أنحني جيدا.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فنسأل الله أن يعافيك ويصرف عنك السوء ويهديك لأرشد أمرك، فقد بلغ منك الوسواس مبلغا عظيما وأضر بك ضررا بالغا، وسبب ذلك هو استرسالك مع الوساوس واستسلامك لها وعدم مجاهدتك نفسك في تركها والإعراض عنها، وقد بينا مرارا وتكرارا أن علاج الوساوس الذي لا علاج لها غيره ولا أنجع منه هو الإعراض عنها وعدم الاكتراث بها والالتفات إليها، وانظري الفتويين رقم: 51601، ورقم: 134196.

واعلمي أن الصلاة والوضوء من أيسر العبادات، بل الشريعة كلها مبناها على اليسر ورفع الحرج على العباد، فاستغراق الوضوء عندك نصف ساعة والغسل ساعتين أو نحو ذلك، والمبالغة في قص الأظافر حتى تشققها، وغسل السرة حتى إدمائها، كل هذا من الغلو والتنطع في الدين المنهي عنه، فالوضوء لا يستغرق وقتا يذكر، وكذلك الغسل ولا سيما إن كان تحت الدش ونحوه، وإزالة الوسخ إن ترتب عليها إيذاء النفس بجرح الجلد ونحو ذلك، سقط طلبها، فاتقي الله في نفسك واحذري من التمادي مع الوساوس والاسترسال فيها، واعلمي أن يسير الدم معفو عنه، بل يرى بعض أهل العلم طهارة الدم الخارج من الإنسان من غير سبيليه، وعلى افتراض نجاسة الدم، فلا تحكمي بانتقال نجاسته لغيره حتى يحصل لك اليقين الجازم بأنه لامسه، وقد ضبط بعض السلف هذا بأن يحصل اليقين الذي يحلف عليه، فإذا شككت في شيء أنه قد أصابتها نجاسة بملامسته أو بسبب ارتداد الماء على أرضية الحمام، فلا تلتفتي إلى هذا الشك، وابني على الأصل وهو الطهارة، وإذا تيقنت أن موضعا قد أصابته النجاسة، فاغسلي هذا الموضع المتيقن فقط، وما سواه لا تلتفتي إليه..

وأما عن لزوم سماع المصلي نفسه عند القراءة والتكبير: ففيه خلاف بين أهل العلم، فقد ذهب المالكية ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح الشيخ العثيمين ـ رحمه الله ـ إلى أنه يكفي تحريك اللسان والشفتين وإخراج الحروف من مخارجها، جاء في مواهب الجليل: قال ابن ناجي في شرح الرسالة: اعلم أن أدنى السر أن يحرك لسانه بالقراءة، وأعلاه أن يسمع نفسه فقط، وأدنى الجهر أن يسمع نفسه ومن يليه، وأعلاه لا حد له. انتهى.

زاد في شرح المدونة: فمن قرأ في قلبه في الصلاة فكالعدم، ولذلك يجوز للجنب أن يقرأ في قلبه، وقال ابن عرفة: وسمع سحنون ابن القاسم: تحريك لسان المسرّ فقط يجزئه، وأحبُّ إسماع نفسه. انتهى.

وقال المرداوي ـ رحمه الله: واختار الشيخ تقي الدين ابن تيمية الاكتفاء بالإتيان بالحروف، وإن لم يسمعها، وذكره وجها في المذهب، قلت: والنفس تميل إليه. انتهى.

وقال الشيخ العثيمين ـ رحمه الله ـ مرجحا هذا القول في الشرح الممتع: وقوله: ويقول، إذا قلنا: إن القول يكون باللسان، فهل يُشترط إسماع نفسه لهذا القول؟ في هذا خِلافٌ بين العلماء، فمنهم مَن قال: لا بُدَّ أن يكون له صوتٌ يُسمعَ به نفسَه، وهو المذهب، وإن لم يسمعه مَنْ بجنبه، بل لا بُدَّ أنْ يُسمع نفسَه، فإنْ نَطَقَ بدون أن يُسمعَ نفسَه فلا عِبْرَة بهذا النُّطقِ، ولكن هذا القول ضعيف، والصَّحيحُ: أنه لا يُشترط أن يُسمِعَ نفسَه، لأن الإسماعَ أمرٌ زائدٌ على القول والنُّطقِ، وما كان زائداً على ما جاءت به السُّنَّةُ فعلى المُدَّعي الدليلُ، وعلى هذا: فلو تأكَّدَ الإنسان من خروج الحروف مِن مخارجها، ولم يُسمعْ نفسَه، سواء كان ذلك لضعف سمعه، أم لأصوات حولَه، أم لغير ذلك، فالرَّاجحُ أنَّ جميعَ أقواله معتبرة، وأنه لا يُشترط أكثر مما دلَّت النُّصوصُ على اشتراطِه وهو القول. انتهى.

وعليه؛ فنرى أن لا حرج عليك أن تعملي بهذا المذهب، خصوصا لما تعانينه من وساوس كثيرة، وننبهك إلى أن سماع صوت المرأة الأجنبية جائز، ما لم يكن فيه خضوع بالقول، وما لم يؤد سماعه إلى الوقوع في الفتنة، ففي صحيح البخاري عن أم عطية قالت: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئاً... الحديث، وفيه: ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة منا يدها، وقالت: فلانة أسعدتني، وأنا أريد أن أجزيها، فلم يقل شيئاً، فذهبت، ثم رجعت.. الحديث.
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث: وفي هذا الحديث أن كلام الأجنبية مباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة.

وأما ما يتعلق بالوسوسة في الركوع: فاعلمي أن للركوع حدا مجزئا، وهو أن ينحني المصلي بقدر ما تمس يده ركبته، وأما كمال الركوع وهو أن يقبض المصلي بيديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع ويمد ظهره ويجعل رأسه حياله ويفرج بين عضديه وجنبيه، فهذا مستحب ولكن لا يلزم، فإذا فعل هذا فقد حاز الفضيلة، وإذا اقتصر على الأول أجزأه وصحت صلاته، قال البهوتي ـ رحمه الله ـ في الروض: ويضعهما أي يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع استحبابا.... ويكون المصلي مستويا ظهره ويجعل رأسه حيال ظهره فلا يرفعه، ولا يخفضه، روى ابن ماجه عن وابصة بن معبد قال: رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، وكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب الماء عليه لاستقر ـ ويجافي مرفقيه عن جنبيه، والمجزئ الانحناء بحيث يمكن مس ركبتيه بيديه. انتهى.

وأخيرا ننصحك بعدم إعادة الصلوات السابقة بسبب توهمك أنها باطلة، فإن هذا باب أراد الشيطان أن يفتحه عليك ليوقعك في المشقة والحرج، ولو كان ما تتوهمينه صحيحا ـ وهو بطلان بعض الصلوات السابقة بسبب الجهل ـ فلا حرج عليك في الأخذ بقول شيخ الإسلام في هذه المسألة، وهو عدم الإعادة، حيث قال رحمه الله: والصحيح في جميع هذه المسائل عدم وجوب الإعادة، لأن الله عفا عن الخطأ والنسيان، ولأنه قال: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ـ فمن لم يبلغه أمر الرسول في شيء معين لم يثبت حكم وجوبه عليه، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعمارا لما أجنبا -فلم يصل عمر، وصلى عمار بالتمرغ- أن يعيد واحد منهما، وكذلك لم يأمر أبا ذر بالإعادة لما كان يجنب ويمكث أياما لا يصلي، وكذلك لم يأمر من أكل من الصحابة حتى يتبين له الحبل الأبيض من الحبل الأسود بالقضاء، كما لم يأمر من صلى إلى بيت المقدس قبل بلوغ النسخ بالقضاء. انتهى مختصرا من الفتاوى الكبرى.

وللفائدة يرجى مراجعة الفتاوى التالية أرقامها: 62420، 125256، 130855.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني