السؤال
أبي يدخن وأنا أتألم كثيرا لهذا وأصبح لدي الكثير من الأمراض النفسية بسبب هذا, مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: يأتي زمان يذوب فيه قلب المؤمن، كما يذوب الملح في الماء، قيل: ممّ ذلك يا رسول الله؟ قال: مما يرى من المنكر لا يستطيع تغييره ـ فمثلا حينما أراه وغيره من المدخنين والعصاة تصبح عضلة القلب تؤلمني وينتقل الألم إلى ذراعي اليسرى وكتفي ورقبتي، وتصبح يدي بيضاء وترتجف وأتعرق ولا أستطيع أن أنام إلا أن يرحمني ربي فأضع يدي على قلبي ومكان الألم وأرقي نفسي بقراءة الفاتحة فأرتاح قليلا بعدها، وإذا نمت أستيقظ فأجد أن قلبي ينبض بسرعة رهيبة ووجهي محمر ويداي وأذناي، وأشعر بحر شديد، وبعد ساعة تقريبا تذهب هذه الأعراض، ونقص وزني تقريبا 60 كيلو... وكلما ذكرت يأتيني عندما أرى المنكر ولا أستطيع تغييره، وفي غيرها من الأوقات لا أعاني والحمد لله من أي شيء.
1ـ هل يسقط عني وجوب الأمر بالمعروف عندما أنصح وأدعو أبي أو أحد الناس مرة واحدة.
2ـ هل ما يصيبني يكون كفارة.
3ـ هل أؤجر على ما يصيبني بصبري؟.
4ـ هل كان يحدث هذا مع الصحابة أو التابعين، فأنا خائف على نفسي من الهلاك؟.
5ـ بماذا تنصحونني؟ وما هو توجيهم لي عندما أرى المنكر ولا أستطيع تغييره؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك، وأن يزيدك حرصا على الخير، واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقيدا بعدد معين من المرات، وإنما مرده إلى القدرة على الإنكار ورجاء المصلحة من القيام به، كما بيناه في الفتوى رقم: 226342.
وما يصيبك ليس محمودا في ذاته، وإنما يحمد من جهة السبب الباعث عليه، فيحمد من جهة حصوله من الغيرة لدين الله، وتعظيم حرماته، والشفقة على الخلق، ونحو ذلك من المعاني الإيمانية، وما يعتريك هو من المصائب، والمصائب مكفرة ـ بإذن الله ـ للسيئات، كما قال صلى الله عليه وسلم: ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه. متفق عليه.
وأما الأجر والثواب على المصائب: فمحل خلاف بين العلماء، جاء في شرح مسلم للنووي: قوله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له درجة، ومحيت عنه بها خطيئة.
وفي رواية: إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة.
وفي بعض النسخ: وحط عنه بها.
وفي رواية: إلا كتب الله له بها حسنة، أو حطت عنه بها خطيئة.
في هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين، فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور، وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها، وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة ولا تكتب حسنة، قال: وروي نحوه عن بن مسعود قال: الوجع لا يكتب به أجر، لكن تكفر به الخطايا فقط، واعتمد على الأحاديث التي فيها تكفير الخطايا، ولم تبلغه الأحاديث التي ذكرها مسلم المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات. اهـ.
وقال ابن القيم: وذكر عن أبي معمر الأزدي قال: كنا اذا سمعنا من ابن مسعود شيئا نكرهه سكتنا حتى يفسره لنا، فقال لنا ذات يوم: ألا إن السقم لا يكتب له أجر ، فساءنا ذلك وكبر علينا، فقال: ولكن يكفر به الخطيئة، فسرنا ذلك وأعجبنا. وهذا من كمال علمه وفقهه ـ رضي الله عنه ـ فإن الأجر إنما يكون على الأعمال الاختيارية ومما تولد منها، كما ذكر الله سبحانه النوعين في آخر سورة التوبة في قوله في المباشر من الإنفاق وقطع الوادي: إلا كتب لهم ـ وفي المتولد من إصاب الظمأ والنصب والمخمصة في سبيله وغيظ الكفار: إلا كتب لهم به عمل صالح ـ فالثواب مرتبط بهذين النوعين. وأما الأسقام والمصائب: فإن ثوابها تكفير الخطايا، ولهذا قال تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ـ والنبي إنما قال في المصائب: كفر الله بها من خطاياه ـ وحصول الحسنة،، إنما هو بصبره الاختياري عليها وهو عمل منه. اهـ.
وننقل كلاما نفيسا لابن القيم يتكلم فيه عن الحزن لسبب ديني، وما يعتريك يدخل في معنى كلامه، يقول رحمه الله: فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأْموراً بتحصيلها وطلبها فلا، ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه من البليات، ولكن يحمد في الحزن سببه ومصدره ولازمه لا ذاته، فإن المؤمن إما أن يحزن.. على تفريطه وتقصيره خدمة ربه وعبوديته، وأما أن يحزن على تورّطه في مخالفته ومعصيته وضياع أيامه وأوقاته، وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى ولكن الحزن لا يجدي عليه، فإنه يضعفه كما تقدم، بل الذي ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته في السفر، فجلس في الطريق حزيناً كئيباً يشهد انقطاعه ويحدث نفسه باللحاق بالقوم، فكلما فتر وحزن حدث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع، فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين، وأخص من هذا الحزن حزنه على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجده في سلوكه، فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك، ولا سيما في ابتداء أمره، فالأول حزن على التفريط في الأعمال، وهذا حزن على نقص حاله مع الله وتفرقة قلبه، وكيف صار ظرفاً لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغير معبوده. وأخص من هذا الحزن حزنه على جزءٍ من أجزاءِ قلبه كيف هو خال من محبة الله؟ وعلى جزءٍ من أجزاءِ بدنه كيف هو منصرف في غير محاب الله؟ فهذا حزن الخاصة، ويدخل في هذا حزنهم على كل معارض يشغلهم عما هم بصدده من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارج، فهذه المراتب من الحزن لا بد منها في الطريق، ولكن الكيس من لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به فأَورثها الحزن، وإن كانت نفساً كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها، فإن علمت منه مخرجاً فكرت في طريق ذلك المخرج وأسبابه، وإن علمت أنه لا مخرج منه، فكرت في عبودية الله فيه، وكان ذلك عوضاً لها من الحزن، فعلى كل حال لا فائدة لها في الحزن أصلاً .اهـ.
ولا نعلم وقوع مثل حالتك للصحابة والتابعين، لكن ذكر الذهبي في السير: قال يحيى بن يمان: سمعت سفيان الثوري -وهو من كبار أتباع التابعين- يقول: إني لأرى المنكر، فلا أتكلم، فأبول أكدم دما. اهـ.
ونوصيك إذا رأيت منكرا لا تقدر على تغييره ألا تجزع من ذلك، وأن تستشعر أن الله عز وجل هو الذي قدر وقوع تلك المعصية بحكمته، وأن تدعو الله لصاحب المنكر بالهداية، وأن تضرع إلى الله أن يزيل ذلك المنكر، وتحمد الله عز وجل أن عافاك من تلك المعصية، وتحمده أن جعلك تنكر ذلك المنكر بقلبك، ولتصرف قلبك ما استطعت عن التفكير في المنكر الذي رأيته ما دام يؤدي بك إلى ما ذكرت من أحوال.
والله أعلم.