الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

تمني السوء والمكروه للمسلم.. حكمه.. أسبابه.. وعلاجه

السؤال

هل يحاسب الإنسان على ما يجول في صدره وعلى ما تحث عليه نفسه فقد أجد نفسي أحياناً أتمنى أن يصاب إنسان بمكروه، أو مشاكل ثم أستغفر الله، وينتابني هذا الأمر كثيراً، علماً بأنني ـ والحمد لله ـ ملتزم دينياً، أخشى مما يجيش في صدري تجاه الآخرين أحياناً؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فتمني الشر للمسلم وإرادة المكروه به من جنس الحسد المحرم والبغض المذموم، وبابه باب الأوصاف الباطنية والأعمال القلبية غير الاكتسابية التي يحاسب عليها الإنسان، لأن كل ما يقع تحت طائلة التكليف موضوع للمحاسبة، لكن ما الدليل على تحريمه؟ وكيف يحاسب الإنسان عليه وهو غير اكتسابي؟ أما دليل تحريمه: فالسنة والإجماع:

أما السنة: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ. رواه مسلم.

قال الإمام النووي: وَمَعْنَى كُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ـ أَيْ تَعَامَلُوا وَتَعَاشَرُوا مُعَامَلَةَ الْإِخْوَةِ وَمُعَاشَرَتِهِمْ فِي الْمَوَدَّةِ وَالرِّفْقِ وَالشَّفَقَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ وَالتَّعَاوُنِ فِي الْخَيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ صَفَاءِ الْقُلُوبِ وَالنَّصِيحَةِ بِكُلِّ حَالٍ.

ومعلوم أن هذا لا يجتمع وتمني الموت والمكروه للآخرين.
وأما الإجماع: فقد قال الإمام النووي في شرح مسلم: وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَزْمِهَا.

وأما كيف يحاسب عليها العبد وهي غير اكتسابية؟ فههنا أصل عظيم في الأعمال القلبية غير الاكتسابية التي تقع في دائرة التكليف بيّنه الإمام الشاطبي في كتابه العظيم الموافقات، فقال: إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد، فذلك راجع في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه.

وقال أيضا: ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة ـ كلها أو أكثرها، من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه ـ وما ينشأ عنها من آفات اللسان... مما هو نتيجة عمل، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها‎. اهـ.

فالسائل لم يصل إلى حديث النفس بسوء يقع لأخيه المسلم وتمني الشر له ـ وهو من أعمال القلب ـ إلا بسبب الحسد والبغض، وما وصل إلى ذلك إلا بتعاطي أسبابه المحرمة وترك موانعه، وكل ذلك تحت التكليف والاختيار، وبالجملة فتحريم هذه الأعمال القلبية والأوصاف الباطنة يرجع إلى التكليف بأمرين:
الأول: السوابق: حرمة تعاطي الأسباب الجالبة للحسد، ولزوم تعاطي الموانع الحائلة دون حصوله، وقد بينا ذلك بيانا شافيا في الفتوى رقم: 137539، ‎فراجعها بالتأني.
الثاني: اللواحق: وجوب التوبة من أسبابها ومدافعة آثارها المحرمة الاكتسابية، ويكون ذلك بتعاطي دواء علاج هذه الآفة، وقد قال الإمام العراقي في طرح التثريب مبينا ما أشرنا إليه، دافعا الإشكال الوارد عليه: إذَا لَمْ يَسْتَرْسِلْ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَتَسَبَّبْ فِي تَأْكِيدِ أَسْبَابِ الْكَرَاهَةِ الْمُؤَدِّيَةِ لِذَلِكَ وَكَانَ مَعَ هَذَا التَّمَنِّي بِحَيْثُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ إزَالَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ لَمْ يُزِلْهَا وَلَمْ يَسْعَ فِي إخْرَاجِهَا عَنْهُ، وَإِنَّمَا عِنْدَهُ خَوَاطِرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا وَلَا يَسْعَى فِي تَنْفِيذِ مَقْصُودِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ. اهـ.

فحقيقة مؤاخذة العبد على الحسد والبغض وما تحدثه به نفسه مما يقترن بهما ترجع إلى المؤاخذة على سوابقها ولواحقها الاختيارية الاكتسابية، وقد اعتنى علماء تزكية الأنفس وفقهاء القلوب ببيان أسباب الحسد وكيفية علاجه، كما في إحياء علوم الدين للغزالي، ومختصره منهاج القاصدين لابن الجوزي، ومختصره لابن قدامة، فعليك بالإحاطة بأسباب هذه الآفة الخطيرة وعلاجها علما وعملا... حتى تبيت وليس في قلبك على مسلم شيء، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص لما قال لصاحبه: إنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَك ثَلَاث مَرَّات فِي ثَلَاث مجَالِس: يطلع عَلَيْكُم الْآن رجل من أهل الْجنَّة، فطلعت أَنْت تِلْكَ الثَّلَاث مَرَّات، فَأَرَدْت آوي إليك فَأنْظرَ عَمَلك، فَلم أرك تعْمل كَبِير عمل فَمَا الَّذِي بلغ بك مَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: مَا هُوَ الا مَا رَأَيْت، فَانْصَرَفت عَنهُ، فَلَمَّا وليت دَعَاني فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْت غير أَنِّي لَا أجد فِي نَفسِي غلّا لأحد من الْمُسلمين وَلَا أحسده على خير أعطَاهُ الله إِيَّاه، قَالَ عبد الله بن عَمْرو: هَذِه الَّتِي بلغت بك وَهِي الَّتِي لَا نطيق. رواه أحمد البزار والنسائي في عمل اليوم والليلة، وصححه العراقي، وابن كثير، والأرنؤوط.

قال ابن تيمية ـ رحمه اللّه ـ عقب الحديث: فقول عبد اللّه بن عمرو له: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق ـ يشير إلى خلوِّه وسلامته من جميع أنواع الحسد‎.‎.

وانظر في أسباب الحسد وكيفية التخلص منه الاستشارة رقم: 246534، في موقع الاستشارات من موقعنا: الشبكة الإسلامية.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني