الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمسائل المفاضلة بين العبادات من المسائل الدقيقة المتشابكة المتشابهة، التي تختلف فيها الأنظار، وتتفاوت فيها الأجور باختلاف الاعتبارات، فيكون العمل الواحد فاضلا من جهة، مفضولا من أخرى! ومن أمثلة ذلك ما ذكره السائل من حال قيام رمضان ـ التراويح ـ فصلاتها مع الإمام أفضل، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 25991، ورقم: 55885. وتطويل القيام أفضل من تكثير الركعات، وراجع في ذلك الفتويين رقم: 32105، ورقم: 177163.
ومن جهة أخرى، فأجر الصلاة يكون على قدر حضور القلب والخشوع فيها، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 5829. فإذا حصل تعارض بين هذه الحيثيات، كان الترجيح بما يتناسب مع حال الشخص نفسه، وذلك بحسب درجة الغفلة في صلاة الجماعة، وحضور القلب في صلاة الفرد، ولاسيما وذلك يوافق الأفضلية الأصلية للتنفل في البيوت عنها في المسجد، وراجع الفتوى رقم: 175537.
ومبنى الترجيح هنا على ما قعَّده أهل العلم من أن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة، أفضل من المتعلقة بزمانها أو مكانها. وعلى ذلك، فصلاة التراويح في البيت بحضور قلب وخشوع أفضل من صلاتها جماعة مع الإمام إذا غفل القلب ولم يخشع البدن، جاء في الدر المختار للحصفكي: الأفضل في النفل غير التراويح المنزل، إلا لخوف شغل عنها، والأصح أفضلية ما كان أخشع وأخلص. اهـ. وقال المليباري في حل ألفاظ فتح المعين: لو تعارضت فضيلة الصلاة في المسجد والحضور خارجه، قدم - فيما يظهر - لأن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى من الفضيلة المتعلقة بمكانها أو زمانها، والمتعلقة بزمانها أولى من المتعلقة بمكانها. اهـ. وقال الدمياطي في شرحه إعانة الطالبين: تفرض المسألة فيما إذا كانت صلاته في البيت وفي المسجد بالجماعة، ولكنه إذا صلى في المسجد لا يحصل له حضور وخشوع، وإذا صلى في البيت يكون بالحضور والخشوع، فالمقدم الصلاة في غير المسجد مع الحضور، وإن فاتته فضيلة المسجد، لأن الفضيلة المتعلقة بالعبادة - وهو الحضور - أولى من المتعلقة بالمكان - وهو الصلاة في المسجد. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين: المحافظة على الفضيلة المتعلقة بالعبادة أولى من المحافظة على الفضيلة المتعلقة بمكانها، هكذا قال العلماء، وضربوا لذلك مثلاً بالرمل، والدنو من الكعبة.. لو قال قائل: أنا إن دنوت من الكعبة لم يحصل لي الرمل، وإن أبعدت عن الكعبة حصل لي الرمل، فأيهما أفضل.. يقول العلماء: الأفضل أن تبتعد وترمل، لأن الفضيلة المتعلقة بذات العبادة أولى بالمحافظة من الفضيلة المتعلقة بمكانها. اهـ.
وقال شيخ الإسلام كما في الاختيارات العلمية ص: 76ـ وقوف المأموم بحيث يسمع قراءة الإمام وإن كان في الصف الثاني أو الثالث، أفضل من الوقوف في طرف الصف الأول مع البعد عن سماع قراءة الإمام، لأن الأول صفة في نفس العبادة فهو أفضل من صفة مكانها، كما رجحنا الرمل مع البعد في الطواف على الدنو مع ترك الرمل. اهـ.
وأما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية المتعلق بحلاوة العبادة: فقد نقله عنه تلميذه ابن القيم في مدارج السالكين، فقال: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا، فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور يعني أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول. اهـ.
وهذا الكلام لا يتعارض البتة مع ألم البدن وتحمله للمشقة، فهذه صفة للبدن والجوارح! وكلام الشيخ إنما هو عن حال القلب وما يتنعم به من حلاوة الإيمان، ولذلك قال ابن القيم قبل ذلك: سرور القلب بالله وفرحه به، وقرة العين به، لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا البتة، وليس له نظير يقاس به، وهو حال من أحوال أهل الجنة، حتى قال بعض العارفين: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب. اهـ.
فللبدن حكمه الذي يلائمه، وللقلب حكم آخر يناسبه، ولا يتعارض تألم البدن، مع نعيم القلب وانشراح الصدر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، واعتبر في ذلك بحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يقوم حتى تتورم قدماه، ومع ذلك يجد قرة عينه في الصلاة!
وأما بخصوص المفاضلة بين المشقة والنفقة في الحج والعمرة: فالظاهر أن النفقة التي تبذل لتحصيل الراحة في السفر والسكن ونحو ذلك، إذا توفرت، فبذلها أولى من تحمل مشقة زائدة مع قلة النفقة، لما ذكرناه سابقا من تقديم الفضيلة المتعلقة بذات العبادة على غيرها، ولأمرين آخرين:
أولهما: أن النفقة في طاعة الله، وخاصة في الحج والعمرة، هي بحد ذاتها عبادة لها فضيلتها، حتى لقد روي عن بريدة مرفوعا: النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف ـ قال المنذري: رواه أحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي وإسناد أحمد حسن. اهـ.
وثانيهما: موافقة مراد الشارع في التيسير والتخفيف على العباد، ورفع الحرج عنهم، قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ {الحج: 78}. وقال سبحانه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ {المائدة: 6}. وقال عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ {البقرة: 185}. وقال تبارك وتعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا {النساء: 28}.
وهذا من جملة ما يرجح به جمهور العلماء الحجَّ راكبا على الحج ماشيا، قال النووي في شرح مسلم: اختلف العلماء في الأفضل منهما، فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء: الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه أعون له على وظائف مناسكه، ولأنه أكثر نفقة، وقال داود: ماشيا أفضل، لمشقته، وهذا فاسد، لأن المشقة ليست مطلوبة. اهـ.
وهنا ننبه على أن تحمل المشاقِّ ليس مطلوبا لذاته، حتى يتقصده العبد، بل الأجر فيها لاستلزام العبادة لها، ولما يترتب عليها من المصالح الشرعية، وقد عقد العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام فصلا فيما يتفاوت أجره بتفاوت تحمل مشقته فقال: إن قيل: ما ضابط الفعل الشاق الذي يؤجر عليه أكثر مما يؤجر على الخفيف؟ قلت: إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقا فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله سبحانه وتعالى، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق، إذ لا يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس عين المشاق تعظيما ولا توقيرا... وذلك كالاغتسال في الصيف والربيع بالنسبة إلى الاغتسال في شدة برد الشتاء، فإن أجرهما سواء لتساويهما في الشرائط والسنن والأركان، ويزيد أجر الاغتسال في الشتاء لأجل تحمل مشقة البرد، فليس التفاوت في نفس الغسلين، وإنما التفاوت فيما لزم عنهما، وكذلك مشاق الوسائل في من يقصد المساجد والحج والغزو من مسافة قريبة، وآخر يقصد هذه العبادات من مسافة بعيدة، فإن ثوابيهما يتفاوتان بتفاوت الوسيلة، ويتساويان من جهة القيام بسنن هذه العبادات وشرائطها وأركانها، فإن الشرع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد، مع تفاوت أجور الوسائل والمقاصد... قد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم، وليست المشقة مصلحة. بل الأمر بما يستلزم المشقة بمثابة أمر الطبيب المريض باستعمال الدواء المر البشع، فإنه ليس غرضه إلا الشفاء. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: كثيرا ما يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، ولكن لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر. اهـ. وراجع للفائدة الفتوى رقم: 18339.
وإذا أراد السائل أن يتوسع في مسائل المفاضلة بين العبادات، فأجمع ما وقفنا عليه في هذا الباب، وهو رسالة الماجستير للباحث سليمان بن محمد النجران: المفاضلة في العبادات قواعد وتطبيقات ـ وهي تقع في 1055 صفحة، ويهم السائل منها المطلب الخاص بأسباب المفاضلة بين العبادات من ص: 100ـ إلى ص 137ـ والفرع المتعلق بالقواعد العامة للمفاضلة بين الأعمال، من ص: 158 ـ إلى ص: 195.
والله أعلم.