السؤال
كنت أدرس لابني شرعية وبها درس عن السيرة النبوية العطرة ووثيقة المدينة وجاء بها (لا يقتل مؤمن في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن) وسؤالي: هل هذا الحكم كان محدودا بزمن صدور وثيقة المدينة وصدر الإسلام وبناء الدولة؟ أم أنه حكم عام حتى الآن؟ وإذا كان حكما عاما فكيف يمكن التوفيق بينه وبين قوله تعالي (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) وكذلك التوفيق بينه وبين ما نعرفه من عدل الإسلام، فلربما كان المسلم سافكا للدماء، وكان الكافر غير مجاهر بكفره ومسالم، فهل ينجو القاتل المسلم بفعلته؟ أرجو إيضاح الحكمة في هذا الأمر، علما بأني أذكر بالفعل أن هناك جدلا فقهيا حول هذا الموضوع، وربما لم يسعني الوقت لسبر غوره كاملا - جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا الكتاب الذي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه بين المهاجرين والأنصار، ووادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم، ذكره ابن إسحاق في سيرته بغير إسناد، وعنه نقله أكثر أهل العلم من أهل السير والمؤرخين، ومنهم ابن سيد الناس في (عيون الأثر) ثم قال: هكذا ذكره ابن إسحق، وقد ذكره ابن أبي خيثمة فأسنده: حدثنا أحمد بن جناب أبو الوليد، حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار، فذكر بنحوه. اهـ.
ولكن كثير المزني هذا ضعيف، كما في تقريب التهذيب، وقال الذهبي في الكاشف: واه. اهـ.
وله شاهد منقطع رواه أبو عبيد وابن زنجويه كلاهما في كتاب الأموال من طريق عقيل عن ابن شهاب الزهري قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب، وفيه: لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن.
ورجاله ثقات، ولكنه من بلاغات الزهري، وهي ضعيفة تكلم فيها أهل العلم، قال ابن رجب في (شرح علل الترمذي) والسيوطي في (تدريب الراوي): خرج البيهقي من طريق أبي قدامة السرخسي قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: مرسل الزهري شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكل ما يقدر أن يسمى سمي، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه.
وقال يحيى بن معين: مراسيل الزهري ليس بشيء.
وقال الشافعي: إرسال الزهري ـ عندنا ـ ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم. اهـ.
وأما بخصوص هذه العبارة: "لا يقتل مؤمن في كافر، ولا ينصر كافر على مؤمن". فقد ثبت معناها في السنة من عدة أوجه، منها حديث علي ـ رضي الله عنه ـ في الصحيفة التي عهد بها النبي صلى الله عليه وسلم إليه، وفيها: لا يقتل مسلم بكافر، رواه البخاري وغيره. وفي رواية أحمد والنسائي وابن ماجه: المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بعهده.
وبهذا الحديث وغيره خص جمهور العلماء الآيات العامة في هذا المعنى، كقوله تعالى: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ {المائدة:45}، وقد سبق لنا بيان وجه ذلك في الفتوى رقم: 265627، فراجعيها للأهمية.
وأما كلام السائلة الذي ختمته بقولها: (فهل ينجو القاتل المسلم بفعلته؟) فجوابه: أنه لا ينجو بفعلته، بل يعاقب بغير القتل مما يراه الإمام رادعا له ولغيره، من أنواع العقوبات التعزيرية كالحبس أو الجلد. كما يجب دفع دية القتيل لأوليائه.
هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن قتل النفس بغير حق كبيرة من كبائر الذنوب، كما تدل عليه الآية التي ذكرتها السائلة ...مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا {المائدة:32}، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً. رواه البخاري وغيره. وراجعي الفتوى رقم: 117917.
والله تعالى أعلم.