السؤال
كيف أفرق بين الأسباب الجائزة، وغير الجائزة التي تكون بعد التوكل على الله، فبعد التوكل نؤمر بفعل الأسباب، وأنا تواجهني كثير من المواقف الكثيرة، والمتنوعة بالنسبة لهذا الأمر، فلا أعلم هل وقعت على السبب الشرعي، أم على السبب غير الجائز شرعا؟
وهل تسمى الأسباب غير الشرعية بالأسباب الشركية، أم بعضها نعم، والآخر لا؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الأسباب الجائزة: هي كل سبب نافع في حصول المسبَّب، ولم ينه الشرع عنه نهي تحريم.
وأما الأسباب غير الجائزة: فهي كل سبب نهى عنه الشرع نهي تحريم -كالسرقة مثلا سبب لحصول المال، لكنه سبب محرم منهي عنه شرعا-، أو كان أمرا مباحا في نفسه، لكن لم يثبت أنه سبب في حصول المسبَّب -كلبس حلقة لاتقاء الأمراض- فهذا تحريمه من جهة اعتقاده سببا.
والأسباب الجائزة يسميها بعض العلماء بالأسباب الشرعية، وبعض العلماء يقصر إطلاق الأسباب المشروعة، على الأسباب التي حث الشرع على فعلها، ورتب عليها الثواب، وهذه مسألة اصطلاحية، لا مشاحة فيها.
فمن الأول قول ابن تيمية: والرقى المحرمة، أو التمريجات الطبيعية. ونحو ذلك، فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب، فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية، فقل أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي، إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة. دع الآخرة. والمخفق من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح، ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم. فهي في نفسها مضرة، ولا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادرا، وإذا حصل فضرره أكثر من نفعه. والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب، المباحة، أو المستحبة سواء كانت طبيعية: كالتجارة والحراثة، أو كانت دينية: كالتوكل على الله، والثقة به، وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع، في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله، بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين صلى الله عليه وسلم، وكالصدقة، وفعل المعروف، يحصل بها الخير المحض أو الغالب. وما يحصل من ضرر بفعل مشروع، أو ترك غير مشروع مما نهي عنه، فإن ذلك الضرر مكثور في جانب ما يحصل من المنفعة. اهـ. من اقتضاء الصراط المستقيم.
ومن الثاني قول ابن عثيمين: اعلم أن الدواء سبب للشفاء، والمسبب هو الله -تعالى- فلا سبب إلا ما جعله الله -تعالى- سببا، والأسباب التي جعلها الله -تعالى- أسبابا نوعان:
النوع الأول: أسباب شرعية كالقرآن الكريم، والدعاء؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفاتحة: وما يدريك أنها رقية؟ وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم، يرقي المرضى بالدعاء لهم، فيشفي الله -تعالى- بدعائه من أراد شفاءه به.
النوع الثاني: أسباب حسية كالأدوية المادية المعلومة عن طريق الشرع كالعسل، أو عن طريق التجارب مثل كثير من الأدوية.
وهذا النوع لا بد أن يكون تأثيره عن طريق المباشرة، لا عن طريق الوهم والخيال، فإذا ثبت تأثيره بطريق مباشر محسوس، صح أن يتخذ دواء يحصل به الشفاء بإذن الله -تعالى- أما إذا كان مجرد أوهام وخيالات يتوهمها المريض، فتحصل له الراحة النفسية بناء على ذلك الوهم والخيال، ويهون عليه المرض، وربما ينبسط السرور النفسي على المرض فيزول، فهذا لا يجوز الاعتماد عليه، ولا إثبات كونه دواء؛ لئلا ينساب الإنسان وراء الأوهام والخيالات، ولهذا نهي عن لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع المرض أو دفعه؛ لأن ذلك ليس سببا شرعيا ولا حسيا، وما لم يثبت كونه سببا شرعيا، ولا حسيا لم يجز أن يجعل سببا، فإن جعله سببا نوع من منازعة الله -تعالى- في ملكه، وإشراك به حيث شارك الله -تعالى- في وضع الأسباب لمسبباتها، وقد ترجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- لهذه المسألة في كتاب التوحيد بقوله: "باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لدفع البلاء، أو رفعه" .اهـ من مجموع فتاواه.
وأما عما أسميته بـ (الأسباب الشركية) فيقال: إن الشرك في باب الأسباب يكون: إما باعتقاد سببية ما ليس سببا، أو بالتعلق بالسبب النافع مع الغفلة عن الاعتماد عن الله.
قال ابن عثيمين: التعلق بالأسباب أقسام:
القسم الأول: ما ينافي التوحيد في أصله، وهو أن يتعلق الإنسان بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتمادا كاملا، معرضا عن الله مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب. وهذا شرك أكبر، مخرج عن الملة، وحكم الفاعل ما ذكره الله -تعالى- بقوله: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}.
القسم الثاني: أن يعتمد على سبب شرعي صحيح، مع غفلته عن المسبب وهو الله -تعالى- فهذا نوع من الشرك، ولكن لا يخرج من الملة؛ لأنه اعتمد على السبب، ونسي المسبب، وهو الله تعالى.
القسم الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقا مجردا لكونه سببا فقط، مع اعتماده الأصلي على الله، فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء قطعه، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب في مشيئة الله -عز وجل- فهذا لا ينافي التوحيد لا أصلا، ولا كمالا. ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة، ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب بل يعلقها بالله، فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقا كاملا، مع الغفلة عن المسبب، وهو الله، فهذا نوع من الشرك، أما إذا اعتقد أن المرتب سبب، والمسبب هو الله -سبحانه وتعالى- فهذا لا ينافي التوكل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب وهو الله عز وجل.اهـ. من فتاواه.
وقال: ولبس الحلقة ونحوها: إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله; فهو مشرك شركا أكبر، في توحيد الربوبية; لأنه اعتقد أن مع الله خالقا غيره. وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثرا بنفسه; فهو مشرك شركا أصغر؛ لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسبب سببا; فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سببا. اهـ. من القول المفيد.
وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 44824، والفتوى رقم: 216799.
والله أعلم.