الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بيان الواجب من إعفاء اللحية

السؤال

شيوخي الأعزاء: هناك من يقول: إن اللحية لا يجب توفيرها كلها، ويوجد خلاف بين العلماء في مقدار حد الوجوب، وهناك شيخ سلفي عندنا يقول: هناك من العلماء من قال: إن مقدار أنملة الأصبع يكفي، وهناك علماء قالوا: إنه بمقدار أكثر من أنملة الأصبع بقليل، يعني أكثر من السنتيميتر بقليل، فهل هذا صحيح؟
ولم أر في فتاويكم هذا الخلاف، والمقدار الواجب في توفير اللحية، وأكثر العلماء يقولون: إنه يجب توفيرها، وإبقاؤها على حالها، ولا يجوز قص ما تحت القبضة، ولكن هناك أقوال لعلماء آخرين، أريد أسماءهم، وأقوالهم -جزاكم الله خيرًا-، وهل أدلتهم قوية؟ لأن كثيرًا من المشايخ يجعلون لحاهم بمقدار بسيط جدًّا، ويقولون: إنها مسألة خلافية، فأريد أقوال علماء المذاهب الأربعة، ومقدار وجوب إعفاء اللحى، وأريد الجواب سريعًا -جزاكم الله خيرًا- فلم أجد هذه الفتوى في أي موقع، وأريد جوابًا وافيًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلم نقف من كلام أهل العلم في بيان الواجب من إعفاء اللحية، على تقدير ذلك بالأنملة، ونحوها، فضلًا عما دون ذلك، وقد سبق أن ذكرنا طرفًا من أقوالهم في بيان مقدار الإعفاء، وحكم الأخذ منها، وذلك في الفتاوى التالية أرقامها: 196679، 14055، 43829، ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 192985.

ونزيد هنا ما وقفنا عليه من كلام أهل العلم في هذه المسألة على اختلاف مذاهبهم:

قال ابن الهمام في (فتح القدير): يحمل الإعفاء على إعفائها من أن يأخذ غالبها، أو كلها، كما هو فعل مجوس الأعاجم من حلق لحاهم، كما يشاهد في الهنود، وبعض أجناس الفرنج، فيقع بذلك الجمع بين الروايات، ويؤيد إرادة هذا ما في مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي عليه الصلاة والسلام: جزوا الشوارب، وأعفوا اللحى؛ خالفوا المجوس. فهذه الجملة واقعة موقع التعليل. وأما الأخذ منها وهي دون ذلك، كما يفعله بعض المغاربة، ومخنثة الرجال، فلم يبحه أحد. اهـ. ونقل ذلك عنه أكثر مصنفي الفقه الحنفي.

وقال السندي في حاشيته على سنن ابن ماجه، وسنن النسائي: (إعفاء اللحية) تركها، وأن لا تقص كالشارب. قيل: والمنهي قصها كصنيع الأعاجم، وشعار كثير من الكفرة، فلا ينافيه ما جاء من أخذها طولًا، وعرضًا للإصلاح. اهـ.

وقال ابن الملك في (شرح المصابيح): وإعفاء اللحية، أي: توفيرها وترك قطعها؛ لتكثر، من عَفَا الشعر: إذا وَفَرَ وكَثُرَ، ويكره قصها كفعل الأعاجم، وبعض الكفار، والقلندرية، والهنود، وغيرهم، كانوا يقصِّرونها ويوفرون الشوارب، وأما الأخذ من طولها أو عرضها ليناسب فحَسَنٌ، لكن المختار ألا يتعرض لها بقص شيءٍ منها. اهـ.

وقال ابن عبد البر في (التمهيد): قال ابن الأنباري: يقال: عفا الشيء يعفو عفوًا، إذا كثر .. وعفا القوم إذا كثروا، وعفوا إذا قلوا، وهو من الأضداد ..

قال أبو عمر ـ ابن عبد البر ـ : أما اللغة في "أعفوا" فمحتملة للشيء وضده، كما قال أهل اللغة. واختلف أهل العلم في الأخذ من اللحية، فكره ذلك قوم، وأجازه آخرون. اهـ.

وقال الباجي في (المنتقى): ويحتمل عندي أن يريد أن تعفى اللحى من الإحفاء؛ لأن كثرتها أيضًا ليس بمأمور بتركه. وقد روى ابن القاسم عن مالك: لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية، وشذ. قيل لمالك: فإذا طالت جدًّا؟ قال: أرى أن يؤخذ منها وتقص. وروى عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة أنهما كانا يأخذان من اللحية ما فضل عن القبضة. اهـ.

قال النفراوي في (الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني): (ولا بأس بالأخذ من طولها إذا طالت) طولًا (كثيرًا) بحيث خرجت عن المعتاد لغالب الناس، فيقص الزائد؛ لأن بقاءه يقبح به المنظر، وحكم الأخذ الندب، فلا بأس هنا؛ لما هو خير من غيره، والمعروف لا حد للمأخوذ، وينبغي الاقتصار على ما تحسن به الهيئة. اهـ.

وقال ابن حجر في (فتح الباري): قال الطبري: ذهب قوم إلى ظاهر الحديث، فكرهوا تناول شيء من اللحية من طولها، ومن عرضها. وقال قوم: إذا زاد على القبضة يؤخذ الزائد ... ثم حكى الطبري اختلافًا فيما يؤخذ من اللحية: هل له حد أم لا؟ فأسند عن جماعة الاقتصار على أخذ الذي يزيد منها على قدر الكف. وعن الحسن البصري أنه يؤخذ من طولها، وعرضها ما لم يفحش. وعن عطاء نحوه. قال: وحمل هؤلاء النهي على منع ما كانت الأعاجم تفعله من قصها، وتخفيفها. قال: وكره آخرون التعرض لها إلا في حج أو عمرة، وأسنده عن جماعة. واختار قول عطاء. اهـ.

وقال ابن الملقن في (التوضيح): قال الطبري: فإن قلت: ما وجه قوله: "أعفوا اللحى" وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إن ترك شعر لحيته اتباعًا منه لظاهر هذا الخبر، تفاحش طولًا وعرضًا، وسمج حتى صار للناس حديثًا ومثلًا.

قيل: قد ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصوص هذا الخبر، وأن من اللحية ما هو محظور إعفاؤه، وواجب قصه على اختلاف في السلف من قدر ذلك وحده؛ فقال بعضهم: حد ذلك أن يزداد على قدر القبضة طولًا، وأن ينتشر عرضًا فيقبح ذلك، فإذا زادت على قدر القبضة، كان الأولى جز ما زاد على ذلك من غير تحريم منهم ترك الزيادة على ذلك ...

وقال آخرون: يأخذ من طولها، وعرضها ما لم يفحش أخذه، ولم يحدوا في ذلك حدًّا، غير أن معنى ذلك عندي: ما لم يخرج من عرف الناس، وهذا قدمناه، وروي عن الحسن أنه كان لا يرى بأسًا أن يأخذ من طول لحيته، وعرضها ما لم يفحش الأخذ منها .. وقال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشيء القليل من طولها، ومن عرضها إذا كثرت، وغلب كراهة الشهرة كالملبس.

والصواب أن قوله: "أعفوا اللحى" على عمومه، إلا ما خص من ذلك؛ وقد روي عنه حديث في إسناده نظر، أن ذلك على الخصوص، وأن من اللحى ما الحق فيه ترك إعفائه، وذلك ما تجاوز طوله، أو عرضه عن المعروف من خلق الناس، وخرج عن الغالب فيهم. ألا ترى ما روى مروان بن معاوية، عن سعيد بن أبي راشد المكي، عن أبي جعفر محمد بن علي قال: كان - عليه السلام - يأخذ اللحية، فما طلع على الكف جزه. وهذا الحديث وإن كان في إسناده نظر، فهو جميل من الأمر، وحسن من الفعل. اهـ.

وقال الشنقيطي في شرح زاد المستقنع: أقل ما يصدق عليه اللحية يكون ما فعله ابن عمر، فيكون تفسيرًا، بحيث نقول: إن ما دون القبضة لا يؤخذ به؛ لأن ابن عمر -رضي الله عنه- فسر اللحية بالقبضة فما فوق، فما دونها لا يجوز أخذه. اهـ.

وأرجع الشيخ صالح آل الشيخ الخلاف في ذلك إلى كلمة (إعفاء) ما حدّه في اللغة؟ قال: الأقرب من حيث النّظر، وفعل الصحابة أنّ الإعفاء ما له حد؛ لكن المأمور به ألا يكون المرء مشابهًا للذين يحلقونها، أو يقصّونها شديدًا. اهـ.

وجاء في (الموسوعة الفقهية) تحت عنوان: (الأخذ من اللحية): ذهب بعض الفقهاء ـ منهم النووي ـ إلى أن لا يتعرض للحية، فلا يؤخذ من طولها، أو عرضها؛ لظاهر الخبر في الأمر بتوفيرها، قال: المختار تركها على حالها، وأن لا يتعرض لها بتقصير، ولا غيره.

وذهب آخرون -منهم الحنفية، والحنابلة- إلى أنه إذا زاد طول اللحية عن القبضة، يجوز أخذ الزائد؛ لما ثبت أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان إذا حلق رأسه في حج، أو عمرة أخذ من لحيته، وشاربه. وفي رواية: "كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل أخذه". قال ابن حجر: الذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا بالنسك، بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تتشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية، أو عرضه.

قال الحنفية: إن أخذ ما زاد عن القبضة سنة، جاء في الفتاوى الهندية: القص سنة فيها، وهو أن يقبض الرجل على لحيته، فإن زاد منها عن قبضته شيء قطعه، كذا ذكره محمد -رحمه الله- عن أبي حنيفة، قال: وبه نأخذ.

وفي قول للحنفية: يجب قطع ما زاد عن القبضة، ومقتضاه ـ كما نقله الحصكفي ـ الإثم بتركه.

وقال الحنابلة: لا يكره أخذ ما زاد عن القبضة منها، ونص عليه أحمد، ونقلوا عنه أنه أخذ من عارضيه. وذهب آخرون من الفقهاء إلى أنه لا يأخذ من اللحية شيئًا إلا إذا تشوهت بإفراط طولها، أو عرضها، نقله الطبري عن الحسن، وعطاء، واختاره ابن حجر، وحمل عليه فعل ابن عمر، وقال: إن الرجل لو ترك لحيته لا يتعرض لها حتى أفحش طولها أو عرضها، لعرض نفسه لمن يسخر به.

وقال عياض: الأخذ من طول اللحية، وعرضها إذا عظمت حسن، بل تكره الشهرة في تعظيمها، كما تكره في تقصيرها. ومن الحجة لهذا القول ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها، وعرضها. أما الأخذ من اللحية وهي دون القبضة لغير تشوه، ففي حاشية ابن عابدين: لم يبحه أحد. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني