السؤال
جزاكم الله خيرًا، وسدد على الحق خطاكم، وفقهكم في دينه، وبارك فيكم، ونفع بكم، وجعلني وإياكم من أهل الفردوس الأعلى من الجنة.
هل ترك بعض المعاصي خوفًا على صحتي يُعد من نواقض الإخلاص -كترك التدخين مثلًا خوفًا على الرئتين، أو خوفًا من السرطان-؟ وكيف أوفق بين ترك المعصية لله، والأخذ بالأسباب التي تحافظ على صحتي، حتى أكون مخلصًا؟ وأرجو منكم النصيحة.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن ترك المعصية لا يفتقر إلى الإخلاص، والنية في السلامة من عقوبتها وتبعتها، وإنما يفتقر إلى النية في حصول الثواب والأجر على الترك، قال ابن تيمية: وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه، وإذا تركها لله كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة، وإن تركها من غير أن يتركها لله، لم تكتب له حسنة، ولا تكتب عليه سيئة. اهـ.
وقال أيضًا: وهذا الهام بالسيئة: فإما أن يتركها لخشية الله وخوفه، أو يتركها لغير ذلك؛ فإن تركها لخشية الله، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، كما قد صرح به في الحديث، وكما قد جاء في الحديث الآخر: اكتبوها له حسنة، فإنما تركها من أجلي، أو قال: من جرائي. وأما إن تركها لغير ذلك، لم تكتب عليه سيئة، كما جاء في الحديث الآخر: فإن لم يعملها لم تكتب عليه. وبهذا تتفق معاني الأحاديث. وإن عملها، لم تكتب عليه إلا سيئة واحدة؛ فإن الله تعالى لا يضعف السيئات بغير عمل صاحبها. اهـ.
وذكر بعض العلماء احتمالًا أن يثاب المسلم على ترك المعصية دون نية، قال ابن حجر: وظاهر الإطلاق - يعني قوله صلى الله عليه وسلم: ومن همّ بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة - كتابة الحسنة بمجرد الترك، لكنه قيده في حديث الأعرج عن أبي هريرة، ولفظه: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي، فاكتبوها له حسنة. وأخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن لم يقع عنده: من أجلي، ووقع عنده من طريق همام عن أبي هريرة: وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جَرَّاي، بفتح الجيم وتشديد الراء بعد الألف، ياء المتكلم، وهي بمعنى من أجلي. ونقل عياض عن بعض العلماء أنه حمل حديث ابن عباس على عمومه، ثم صوب حمل مطلقه على ما قيد في حديث أبي هريرة. قلت: ويحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار، ما قيد به، دون حسنة الآخر؛ لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر، والكف عن الشر خير، ويحتمل أيضًا أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة، فإن تركها من مخافة ربه سبحانه، كتبت حسنة مضاعفة. اهـ.
وعلى كل حال؛ فإن ترك المعصية مراعاة لغرض دنيوي، لا يتنافى مع الإخلاص لله من كل وجه، فإنه يصح ترك المحرم ابتغاء مرضاة الله وثوابه، مع الالتفات إلى غرض دنيوي صحيح - كترك التدخين؛ لأنه محرم، ولأجل الحفاظ على الصحة- ولا يعد هذا مفسدًا للإخلاص، فإن فعل الطاعة -ومن باب أولى ترك المعصية- إذا كان لله تعالى، واقترن بذلك قصد صحيح -كأن ينوي مع الوضوء التبرد، أو ينوي مع الصيام تقوية بدنه، ومثله أن ينوي بترك المعصية الحفاظ على صحته، ونحو ذلك- لم يكن ذلك قادحًا في أصل الإخلاص، ولا مبطلًا للأجر، وإن كانت تجريد القصد قربة لله تعالى أتم ثوابًا، قال في كشاف القناع: ولو نوى مع رفع (الحدث) إزالة (النجاسة، أو التبرد، أو التنظيف، أو التعليم) فإنه لا يؤثر في النية، كمن نوى مع الصوم هضم الطعام، أو مع الحج رؤية البلاد النائية، ونحوه، لكنه ينقص الثواب. اهـ.
وبهذا؛ يتبين أنه لا تمانع بين الإخلاص لله في ترك المعصية، وبين الالتفات إلى أغراض أخرى صحيحة في ترك المعصية، وانظر الفتوى رقم: 247003.
والله أعلم.