الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجوز استغلال مقبرة قديمة موقوفة في مرافق عامة ونقل القبور لمكان آخر؟

السؤال

نحن أبناء منطقة شعب البارع مديرية رصد محافظة أبين نطلب من فضيلتكم إصدار فتوى تخص مقبرة عامة في المنطقة، فكما تعلمون منطقتنا فشا فيها الجهل في الدين في فترة من الزمن بسبب النهج الذي كان سائدًا، وتلك المقبرة تم تسبيلها من أهل الخير ـ جزاهم الله خير الجزاء، وأجزل لهم المثوبة ـ في قديم الزمان، حتى إن آباءنا وأجدادنا لم يدفنوا فيها لقدمها، وأنا الآن في الخمسين من العمر أسمع أنها كانت مقبرة، وبني فيها مسجد في طرفها، وهجر بسبب أنه بني على قبور، وكانوا يقولون: إن القبور متجهة جهة القدس؛ مما يعني أن فيها بعض القبور لغير المسلمين، وفيها أيضًا مسلمون، والمشكلة أنها استغلت بعد ذلك لأمور أخرى، كملعب لكرة القدم لأبناء المنطقة لعشرات السنين، ومحلات تجارية لأشخاص، ومدرسة، ونادٍ ثقافي، ومركز صحي، ومزرعة، وتم جرف القبور وتهديمها، وعندنا بعض الشباب المتدين عطلوا المركز الصحي، ورفضوا التدريس في المدرسة: بحجة وجود القبور، وأما المحلات التجارية، فما زالت تعمل؛ لأنها لأشخاص، ولأنه ما زال فيها متسع، وأهل المنطقة بحاجة إلى بناء خزان للماء، وديوان، ومشاريع عامة للمنطقة، فهل يجوز نقل القبور الباقية ونبشها، ووضعها في مكان يليق بحرمة الموتى؟ وكيف نتصرف في المباني التي أقيمت فيها؟ وهل يتم نبش الغرف التي لم تنبش؟ أما الأساسات فقد نبشت وأخرجت، وهل يجوز بناء المشاريع في قطعة الأرض التي جرفت منها القبور للمصلحة العامة؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإن كان من سبل المقبرة أوقفها للدفن خاصة ـ كما يظهر ـ فإن استغلالها في غير الدفن من التصرف في الوقف بما يخالف شرط الواقف، وهو من المسائل الخلافية، يقول الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ عنها: وهذه المسألة اختلف فيها العلماء، فمنهم من يقول: إن الواقف إذا شرط شروطًا في الوقف، ورأى الناظر أن غير هذا الشرط أنفع للعباد، وأكثر أجرًا، فإنه لا بأس أن يصرفه إلى غيره، ومنهم من منع ذلك، وقالوا: إن هذا الرجل أخرج هذا الوقف عن ملكه على وجه معين، فلا يجوز أن يُتَصرف في ملكه إلا حسب ما أخرجه، وأما الذين قالوا بالجواز، فيقولون: إن أصل الوقف للبر والإحسان، فما كان أبر وأحسن، فهو أنفع للواقف، واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل عام الفتح، وقال: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: صلِّ ها هنا ـ فأعاد عليه, فقال: صلِّ ها هنا ـ فأعاد عليه، فقال: صلِّ ها هنا ـ فأعاد عليه، فقال: شأنك إذن ـ والوقف شبيه بالنذر، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أجاز للناذر أن ينتقل إلى الأفضل, فالواقف كذلك، وهذا القول هو الصحيح، وهو أنه يجوز أن يغير شرط الواقف إلى ما هو أفضل، ما لم يكن الوقف على معيّن, فإن كان الوقف على معيّن لم يجز صرفه إلى جهة أفضل؛ لأنه معيّن، فتعلق الحق بالشخص المعيّن, فلا يمكن أن يغير، أو يحول. انتهى بتصرف.

والفتوى في الموقع على رأي القائلين بجواز التصرف في هذا النوع من الأوقاف بالمصلحة، والعدول عن شرط الواقف؛ تغليبًا للمصلحة، والتفاتًا إلى أن غرض الواقف هو الحصول على الأجر الأكثر، وذلك في استغلال وقفه في الأصلح والأنفع، بدلًا من تعطيله، أو استغلاله في الأوجه الأقل نفعًا للمسلمين؛ لعدم مسيس الحاجة إليها، وسهولة الاستغناء عنها بغيرها، لكن بما أن الأصلح لأهل تلك القرية والتحقق مما تمس الحاجة إليه عندهم أكثر، لا يستطيع تقديره، ومن ثم بناء الحكم عليه إلا العلماء وأهل الرأي منهم، فإننا نرشد السائل إلى توجيه السؤال إليهم ليفتوه على بصيرة من الأمر، فهم الذين يعرفون هل القرية أحوج إلى الدفن فيما تبقى من المقبرة، أو هم أحوج إلى بناء مرافق عامة فيها؟

وأما نبش القبور بعد بلاها، وانعدام أي بقايا لأهلها، فهو جائز، وإن اختلفوا فيما يجوز استغلال المكان فيه بعد النبش، وإليك نصوصهم في ذلك، قال النووي: يجوز نبش القبر إذا بلي الميت وصار ترابًا, وحينئذ يجوز دفن غيره فيه, ويجوز زرع تلك الأرض، وبناؤها، وسائر وجوه الانتفاع والتصرف فيها باتفاق الأصحاب, وإن كانت عارية رجع فيها المعير، وهذا كله إذا لم يبق للميت أثر من عظم، وغيره، قال أصحابنا -رحمهم الله-: ويختلف ذلك باختلاف البلاد، والأرض، ويعتمد فيه قول أهل الخبرة بها. اهـ.

وقال المرداوي الحنبلي في كتابه الإنصاف: متى علم أن الميت صار ترابًا، قال في الفروع: ومرادهم ظن أنه صار ترابًا؛ ولهذا ذكر غير واحد: يعمل بقول أهل الخبرة، فالصحيح من المذهب أنه يجوز دفن غيره فيه، نقل أبو المعالي: جاز الدفن، والزراعة، وغير ذلك، ومراده إذا لم يخالف شرط واقفه لتعيينه الجهة، وقيل: لا يجوز. انتهى.

وقال العيني الحنفي في البناية في شرح الهداية: ولو بلي الميت وصار ترابًا يجوز دفن غيره في قبره، وزرعه، والبناء فيه، وسائر الانتفاعات به. انتهى.

وقال عليش المالكي في منح الجليل شرح مختصر خليل: ولا ينبش ما دام به... أي: في القبر، فإن تحقق أو ظن أنه لم يبق شيء محسوس من الميت، فيجوز نبشه للدفن فيه فقط، لا زراعته، ولا بناء دار. انتهى.

وقال صاحب الشرح الصغير: إذا علم أن الأرض أكلته، ولم يبق منه شيء من عظام، فإنه ينبش، لكن للدفن، أو اتخاذ محلها مسجدًا، لا للزرع والبناء.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني