الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

العذر بالجهل ليس على إطلاقه

السؤال

ما الفائدة من دعوة عوام الناس وتصحيح عقائدهم من شركيات أو بدع، أو دعوة الكفار إلى الإسلام إذا كانوا يعذرون بجهلهم ونستثمر وقتنا في الجهاد مثلا أو طلب العلم لمجادلة العلماء غير المسلمين، لأنهم أخطر علينا من العوام؟ وهل مقولة يعذر الإنسان بجهله هي على الإطلاق أم لها ضوابط, لأني كنت شابا غير ملتزم وأفعل المحرمات ولا أصلي ولم يخطر ببالي أن الدين أمر مهم إلى هذه الدرجة، ثم هداني الله؟ وهل إذا بقيت على هذه الحال التي أسميها الجاهلية معذور؟ أم لست معذورا، لأن الله لا يعذب أحدا حتى يبعث رسولا وكنت أعلم الحلال والحرام، ولكنني حقيقة من داخلي لم يخطر ببالي أهمية الدين، فأنا أرى أنني كنت معذورا لأن الله يعلم أنني في داخلي جاهل بهذه الأمور وأهمية الدين والله لا يعذبني حتى تقوم علي الحجة؟ أرجو التفصيل قليلا في هذا الموضوع، لأنني طالب علم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالعذر بالجهل يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والمسائل، والضابط الإجمالي الذي يلخص ذلك ويقربه ما ذكره السيوطي بقوله: كل من جهل تحريم شيء مما يشترك فيه غالب الناس، لم يقبل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة يخفى فيها مثل ذلك: كتحريم الزنا، والقتل، والسرقة والخمر، والكلام في الصلاة، والأكل في الصوم والقتل بالشهادة إذا رجعا، وقالا تعمدنا، ولم نعلم أنه يقتل بشهادتنا، ووطء المغصوبة، والمرهونة بدون إذن الراهن، فإن كان بإذنه قبل مطلقا، لأن ذلك يخفى على العوام. اهـ.

فليس كل جهل يعد صاحبه معذورا، وإلا فلو عذر كل جاهل، لكان الجهل خيرا وأنفع لصاحبه من العلم! جاء في المنثور للزركشي: إعذار الجاهل من باب التخفيف، لا من حيث جهله، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: لو عذر الجاهل، لأجل جهله لكان الجهل خيرا من العلم، إذ كان يحط عن العبد أعباء التكليف ويريح قلبه من ضروب التعنيف، فلا حجة للعبد في جهله بالحكم بعد التبليغ والتمكين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. اهـ.

فهناك مسألة مهمة تتعلق بالعذر بالجهل وهي قضية وجوب التعلم، والإثم بالتفريط في طلب العلم الواجب، فمن قصر في التعلم الواجب فقد نص بعض العلماء على أن جهله لا يكون عارضًا مؤثرًا في عدم مؤاخذته, بل يؤاخذ بهذا الجهل لتقصيره في دفعه بالتعلم, قال القرافي في الفروق: لأن القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه لا يكون حجة للجاهل, فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله, وأوجب عليهم كافة أن يعلموها ثم يعملوا بها, فالعلم والعمل بها واجبان, فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلًا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين, وإن علم ولم يعمل فقد عصى معصية واحدة بترك العمل, ومن علم وعمل فقد نجا.

وقال في الفروق أيضًا: الفرق الرابع والتسعون بين قاعدة ما لا يكون الجهل عذرًا فيه, وبين قاعدة ما يكون الجهل عذرًا فيه: اعلم أن صاحب الشرع قد تسامح في جهالات في الشريعة, فعفا عن مرتكبها, وأخذ بجهالات فلم يعف عن مرتكبها وضابط ما يعفى عنه من الجهالات الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة, وما لا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشق لم يعف عنه. اهـ.
وجاء في حاشية ابن الشاط: الفرق الثالث والتسعون بين قاعدة النسيان في العبادات لا يقدح, وقاعدة الجهل يقدح، وكلاهما غير عالم بما أقدم عليه: الجهل والنسيان وإن اشتركا في أن المتصف بواحد منهما غير عالم بما أقدم عليه, إلا أنه يفرق بينهما من جهتين:

الجهة الأولى: أن النسيان يهجم على العبد قهرًا، بحيث لا تكون له حيلة في دفعه عنه, بخلاف الجهل, فإن له حيلة في دفعه بالتعلم.

الجهة الثانية: أن الأمة قد أجمعت على أن النسيان لا إثم فيه من حيث الجملة, ودل قوله عليه السلام: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ـ على أن الناسي معفو عنه, وأما الجهل فليس كذلك، لأن من القاعدة التي حكى الغزالي في إحياء علوم الدين والشافعي في رسالته الإجماع عليها: أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيه. اهـ.

بينما فصل بعض العلماء فقالوا بإمكان الإعذار بالجهل، مع التأثيم بالتفريط في طلب العلم الواجب، جاء في البحر المحيط للزركشي: مسألة: إذا فعل المكلف فعلا مختلفا في تحريمه غير مقلد لأحد، فهل نؤثمه، بناء على القول بالتحريم، أو لا بناء على التحليل، مع أنه ليس إضافته لأحد المذهبين أولى من الآخر، ولم يسألنا عن مذهبنا فنجيبه.

قال القرافي: لم أر فيه نصا، وكان الشيخ عز الدين بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ يقول إنه آثم، من جهة أن كل أحد يجب عليه أن لا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، وهذا أقدم غير عالم فهو آثم بترك التعلم، وأما تأثيمه بالفعل نفسه، فإن كان مما علم في الشرع قبحه أثمناه، وإلا فلا. اهـ.

وقال ابن عثيمين: ولهذا نقول: كل إنسان فعل شيئاً محرماً جاهلاً به فإنه ليس عليه إثم، ولا يترتب عليه عقوبة، لأن الله تعالى أرحم من أن يعذب من لم يتعمد مخالفته ومعصيته، ولكن يبقى النظر إذا فرط الإنسان في طلب الحق، بأن كان متهاوناً، ورأى ما عليه الناس ففعله دون أن يبحث، فهذا قد يكون آثماً، بل هو آثم بالتقصير في طلب الحق، وقد يكون غير معذور في هذه الحال، وقد يكون معذوراً إذا كان لم يطرأ على باله أن هذا الفعل مخالفة، وليس عنده من ينبهه من العلماء، ففي هذه الحال يكون معذوراً، فالخلاصة إذاً: أن الإنسان يعذر بالجهل، لكن لا يعذر في تقصيره في طلب الحق. اهـ.

ومن الآثار الدالة على هذا ما رواه عبد الرزاق عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، حدثه قال: توفي عبد الرحمن بن حاطب، وأعتق من صلى من رقيقه وصام، وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه، فلم يرع إلا حبلها، وكانت ثيبا، فذهب إلى عمر فزعا فحدثه، فقال له عمر: لأنت الرجل لا يأتي بخير ـ فأفزعه ذلك فأرسل إليها فسألها، فقال: حبلت؟ قالت: نعم من مرغوش بدرهمين، وإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه، فصادف عنده عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف فقال: أشيروا علي وكان عثمان جالسا، فاضطجع فقال علي، وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد، فقال: أشر علي، يا عثمان، فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر علي أنت، قال عثمان: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه، وليس الحد إلا على من علمه، فأمر بها فجلدت مائة، ثم غربها، ثم قال: صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علم.

فلم يحدها لجهلها بالحكم، ولكن جلدها تعزيراً لتفريطها في التعلم، فدل على أن العذر بالجهل وعدم المؤاخذة به في التكفير، أو إعادة العبادة، لا يقتضي رفع الإثم الحاصل بالتقصير في طلب العلم، فإذا تقرر هذا: فلا تعارض بين القول بالعذر بالجهل في بعض الأحوال، وبين السعي في دعوة الناس وإزالة الجهل عنهم، فليس المدعوون كلهم جاهلين، فمنهم العالم المخالف للحق لفساد القصد والإرادة، وحتى الجاهل منهم فليس كل جهل يعد عذرا ـ كما تقدم ـ ثم إن العذر بالجهل معناه رفع الإثم أو رفع الكفر، أو عدم المطالبة بالقضاء، ونحو ذلك، وليس معنى العذر بالجهل أن الجاهل يستوي بالعالم بالحق المتبع له، كلا! فمثلا: من جهل وجوب الصلاة ـ إن كان حديث عهد بإسلام أو نحوه ـ وعذرناه بالجهل فعنى ذلك أنه يسلم من إثم ترك الصلاة، لكن لا يقول أحد إنه يستوي مع من علم وجوب الصلاة وأقامها ابتغاء وجه الله وتعظيما لأمره، فهذا يثاب ويؤجر ويُقرَّب، وأما الأول فحسبه السلامة من الإثم، وهكذا، فالعذر بالجهل معناه رفع الإثم والعقوبة، قال ابن عثيمين: ولهذا نقول: كل إنسان فعل شيئاً محرماً جاهلاً به فإنه ليس عليه إثم، ولا يترتب عليه عقوبة لأن الله تعالى أرحم من أن يعذب من لم يتعمد مخالفته ومعصيته. اهـ.

فالخلاصة: أن القول بأن العذر بالجهل يلزم منه ترك دعوة الناس إلى الحق، وتعليمهم الدين، وتركهم على جهلهم: قول في غاية الغرابة والبطلان، ولا يحتاج بيان فساده ووهائه في الحقيقة إلى كبير بيان، وانظر الفتوى رقم: 293053.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني