السؤال
أرى أناسا ضعفاء وفقراء، أو قد ابتلوا كثيرا، فأشفق عليهم، ثم أقول لنفسي: إن الله أرحم مني بهم، وهو الذي خلقهم، ثم أقول إن الله خلقنا ليختبرنا هل سنساعد بعضنا أم لا؟ فأقول: يجب أن أساعدهم ﻷجل الثواب، أي من أجل مصلحتي أنا: الحسنات، ورضا الله، والجنة؛ ﻷن الله ليس بظلام، وهو يبتلي الناس على قدر إيمانهم؛ فأصل إلى نتيجة أنني يجب أن أساعدهم، ولكن تزول مني الشفقة والرحمة للعباد؛ ﻷني أفكر بشكل عقلاني وليس بعاطفتي، وأرى أن شفقتي عليهم سوء ظن بالله؛ لأن الله أرحم الراحمين، ولا يعذب، ويبتلي إلا لحكمة ورحمة.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فهذه الطريقة التي تفكر بها خطأ بلا شك، فإن من الحكم التي لأجلها ابتلى الله من ابتلى من خلقه، أن ينظر إلى ما في قلوب عباده من رحمتهم، فأنت إذا رحمت المبتلين اثبت على ذلك، فإن الراحمين يرحمهم الرحمن، فحال من يرحم الخلق، ويرضى بقضاء الله، أكمل من حال من لا توجد في قلبه هذه الرحمة، وهذه حال نبينا صلى الله عليه وسلم، كما بكى لموت ابنه، وغير ذلك من المواقف التي ظهرت فيها رحمته بالضعيف والمسكين.
قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله: وَبَكَى مَعَ ذَلِكَ يَوْمَ مَوْتِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ رَأْفَةً مِنْهُ، وَرَحْمَةً لِلْوَلَدِ، وَرِقَّةً عَلَيْهِ، وَالْقَلْبُ مُمْتَلِئٌ بِالرِّضَى عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَشُكْرِهِ، وَاللِّسَانُ مُشْتَغِلٌ بِذِكْرِهِ وَحَمْدِهِ. وَلَمَّا ضَاقَ هَذَا الْمَشْهَدُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ يَوْمَ مَاتَ وَلَدُهُ، جَعَلَ يَضْحَكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَضْحَكُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ قَالَ: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى بِقَضَاءٍ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَرْضَى بِقَضَائِهِ» ) فَأَشْكَلَ هَذَا عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: كَيْفَ يَبْكِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ، وَهُوَ أَرْضَى الْخَلْقِ عَنِ اللَّهِ، وَيَبْلُغُ الرِّضَى بِهَذَا الْعَارِفِ إِلَى أَنْ يَضْحَكَ، فَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابن تيمية يَقُولُ: هَدْيُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَكْمَلَ مِنْ هَدْيِ هَذَا الْعَارِفِ، فَإِنَّهُ أَعْطَى الْعُبُودِيَّةَ حَقَّهَا، فَاتَّسَعَ قَلْبُهُ لِلرِّضَى عَنِ اللَّهِ، وَلِرَحْمَةِ الْوَلَدِ، وَالرِّقَّةِ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَرَضِيَ عَنْهُ فِي قَضَائِهِ، وَبَكَى رَحْمَةً وَرَأْفَةً، فَحَمَلَتْهُ الرَّأْفَةُ عَلَى الْبُكَاءِ، وَعُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ وَمَحَبَّتُهُ لَهُ عَلَى الرِّضَى وَالْحَمْدِ، وَهَذَا الْعَارِفُ ضَاقَ قَلْبُهُ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَمْ يَتَّسِعْ بَاطِنُهُ لِشُهُودِهِمَا وَالْقِيَامِ بِهِمَا، فَشَغَلَتْهُ عُبُودِيَّةُ الرِّضَى، عَنْ عُبُودِيَّةِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ. انتهى.
فأنت حين تساعد أهل البلاء مأجور، وحين ترحمهم فتسأل لهم بلسان حالك وقالك، التخفيف، مأجور، ومن يرحم أهل البلاء أكمل حالا ممن لا يرحمهم، ناظرا إلى مشيئة الله وقضائه السابق، فالكمال أن تجمع بين المشهدين، مشهد التسليم لحكم الله، والعلم بأنه ما قضى هذا القضاء إلا لحكمة، ومشهد الرحمة بالمخلوق والشفقة عليه، امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم: ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء. رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح.
والله أعلم.