السؤال
علمنا أن القرآن الكريم نزل من اللوح المحفوظ من بيت العزة إلى السماء الدنيا جملة واحدة، وذلك في رمضان، ثم نزل بعد ذلك مفرّقًا منجمًا على ثلاث وعشرين سنة حسب الأحوال والأحداث، وقد جاء في قصة المرأة التي اشتكت للنبي صلى الله عليه وسلم تجادل في زوجها، وأن الله سمع كلامها، فكيف يكون القرآن موجودًا بكامله في بيت العزة قبل نزوله، وحادثة سماع كلام المرأة لم تكن إلا بعد ذلك، والله يقول: "قد سمع قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله"، وهذه الحادثة وقعت في المدينة؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالقول الصحيح أن القرآن قد نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة, كما سبق تفصيله في الفتوى رقم: 67932.
وبخصوص قصة المرأة التي اشتكت للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن ظهار زوجها منها، وأن الله سمع كلامها، فإن آيات الظهار قد نزلت لأجل هذه القصة, وسماع الله تعالى لكلام هذه المرأة قد كتبه, وقدّره من قبل, فهو من جملة مقادير الخلائق التي كتبها عنده، يقول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر:49}.
وقال الخازن في تفسيره: قوله عز وجل: إنا أنزلناه ـ يعني القرآن، كناية عن غير مذكور، في ليلة القدر، وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن العظيم جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر, فوضعه في بيت العزة، ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم نجومًا متفرقة في مدة ثلاث وعشرين سنة، فكان ينزل بحسب الوقائع، والحاجة إليه، وقيل: إنما أنزله إلى السماء الدنيا لشرف الملائكة بذلك، ولأنها كالمشترك بيننا وبين الملائكة، فهي لهم سكن، ولنا سقف وزينة... انتهى.
وفي قيام رمضان لمحمد بن نصر المروزي: وعن ابن عباس -رضي الله عنه-, وسأله عطية بن الأسود قال: إنه وقع في قلبي الشك قول الله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن {البقرة: 185}، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة القدر {القدر: 1}، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة {الدخان: 3}، وقد أنزل في رمضان، وشوال، وذي القعدة، وذي الحجة، والمحرم، وشهري ربيع, فقال: إن الله أنزل القرآن في رمضان في ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة, ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلًا في الشهور والأيام ـ وفي رواية: نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين سنة, ونجمه جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، وهو قوله: فلا أقسم بمواقع النجوم {الواقعة: 75}، يعني نجوم القرآن: وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم {الواقعة: 76}، قال: فلما لم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم جملة قال الذين كفروا: لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة، فأنزل الله: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة {الفرقان: 32}، قال الله: كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا {الفرقان: 32}، يقول: رسلناه ترسيلا, يقول شيئًا بعد شيء: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرًا {الفرقان: 33}، يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب, ولكنا نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت, قال: ففي القرآن مما أنزل الله فيه جملة: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ـ، وفيه: سيقول لك المخلفون {الفتح: 11}، وفيه: يسألونك عن ذي القرنين {الكهف: 83}، وفيه: تبت يدا أبي لهب ـ وأشباه هذا, يعني: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها {المجادلة: 1} أنه كان قبل أن تخلق خولة ـ رضي الله عنها ـ، وأبو لهب، ونحو هذا, وهذا في القدر، ولو أن خولة -رضي الله عنها- أرادت أن لا تجادل لم يكن؛ لأن الله قدر ذلك عليها في أم الكتاب قبل أن يخلقها. اهـ.
وقال العلامة الشيخ ابن عثيمين في شرح الأربعين النووية عند شرحه للحديث الثالث والعشرون عند قوله صلى الله عليه وسلم: والقرآن حجةٌ لك، أو عليك ـ قال: وكونه في الكتاب المكنون هل معناه أن القرآن كله كتب في اللوح المحفوظ، أو أن المكتوب ذكر القرآن، وأنه سينزل وسيكون كذا وكذا؟ الأول، لكن يبقى النظر: كيف يُكتب قبل أن تخلق السماوات بخمسين ألف سنة، وفيه العبارات الدالة على المضي مثل: قوله: وإذ غدوت من أهلك تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال ـ ومثل قوله: قد سمع الله التي تجادلك ـ وهو حين كتابته قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع؛ لأن المجادلة ما خلقت أصلًا حتى تسمع مجادلتها؟
فالجواب: أن الله قد علم ذلك، وكتبه في اللوح المحفوظ، كما أنه قد علم المقادير، وكتبها في اللوح المحفوظ، وعند تقديرها يتكلم الله عز وجل بقوله: كن فيكون ـ هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو مما تطمئن إليه النفس، وكنت قبلًا أقول: إن الذي في اللوح المحفوظ ذكر القرآن، لا القرآن؛ بناءً على أنه يعرج بلفظ المضي قبل الوقوع، وأن هذا كقوله تعالى عن القرآن: وإنه لفي زبر الأولين ـ والذي في زبر الأولين ليس القرآن، الذي في زبر الأولين ذكر القرآن، والتنويه عنه، ولكن بعد أن اطلعت على قول شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- انشرح صدري إلى أنه مكتوبٌ في اللوح المحفوظ، ولا مانع من ذلك، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتكلم به، ويلقيه إلى جبريل، هذا قول السلف، وأهل السنة في القرآن. اهـ.
والله أعلم.