السؤال
أنا شاب من السودان، هداه الله -ولله الحمد- إلى الاستقامة. كنت مجتهدا اجتهادا شديدا في العبادات -والحمد لله-
وكنت كل ما أجد عبادة أجرها عظيم أدعو في سجودي أن أفعلها بقول: "أعاهدك يا رب علي" وقد كثرت علي.
وأنا أعرف عن النذور، ولا أقصده، إنما أقول هذا لأشجع نفسي، وفي يوم كنت أقرأ القرآن، فانتبهت أن من لم يوف بالعهد له الوعيد الشديد. بحثت في الإنترنت وجدت أن هذا يدخل في النذر.
المعاهدات التي عاهدت كثيرة جدا. أغلبها صعبة، وقلت: عاهدتك يا ربي لكي أتشجع.
أفيدوني. وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل أن يزيدك هدى، وثباتا على الحق.
واعلم أنه قد اختلف أهل العلم فيمن قال: أعاهد الله على كذا؟ والراجح عندنا أنها تارة تكون يميناً ونذراً، وتارة يميناً فقط، فإن التزم بها قربة وطاعة فهي نذر ويمين، كما سلف في الفتوى رقم: 135742 .
وقولك: (وأنا أعرف عن النذور، ولا أقصده إنما أقول هذا لأشجع نفسي) فإن الراجح أنه لا يشترط في انعقاد النذر واليمين بالمعاهدة أن ينوي بها ذلك -كما تراه في الفتوى المحال عليها آنفا-.
وعليه: فإنه يجب عليك الوفاء بما عاهدت الله عليه من الطاعات، إلا أن تعجز عن ذلك، فتكفر حينئذ بكفارة يمين.
وتلزمك عن كل معاهدة منها كفارة عند جمهور العلماء، ما دامت متعددة على أجناس، جاء في المغني لابن قدامة:
وإن حلف أيمانا على أجناس، فقال: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا لبست. فحنث في واحدة منها، فعليه كفارة، فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى، لزمته كفارة أخرى. لا نعلم في هذا أيضا خلافا؛ لأن الحنث في الثانية تجب به الكفارة بعد أن كفر عن الأولى، فأشبه ما لو وطئ في رمضان فكفر، ثم وطئ مرة أخرى. وإن حنث في الجميع قبل التكفير، فعليه في كل يمين كفارة. هذا ظاهر كلام الخرقي. ورواه المروذي عن أحمد. وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أبو بكر: تجزئه كفارة واحدة. ورواها ابن منصور عن أحمد. قال القاضي: وهي الصحيحة. وقال أبو بكر: ما نقله المروذي عن أحمد قول لأبي عبد الله، ومذهبه أن كفارة واحدة تجزئه. وهو قول إسحاق؛ لأنها كفارات من جنس، فتداخلت، كالحدود من جنس، وإن اختلفت محالها، بأن يسرق من جماعة، أو يزني بنساء. ولنا، أنهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى، فلم تتكفر إحداهما بكفارة الأخرى، كما لو كفر عن إحداهما قبل الحنث في الأخرى، وكالأيمان المختلفة الكفارة، وبهذا فارق الأيمان على شيء واحد؛ فإنه متى حنث في إحداهما كان حانثا في الأخرى، فإن كان الحنث واحدا، كانت الكفارة واحدة، وها هنا تعدد الحنث، فتعددت الكفارات، وفارق الحدود؛ فإنها وجبت للزجر، وتندرئ بالشبهات، بخلاف مسألتنا .اهـ.
ونذكرك أخيرا بخطر الإقدام على معاهدة الله جل وعلا، وعظم شأنه، وإلى وجوب الوفاء بعهد الله، والحذر من نقضه وإخلافه، قال ابن عثيمين: معاهدة الله سبحانه وتعالى على الأعمال الصالحة هي النذر، والنذر نهى عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال: (إنه لا يأتي بخير ولا يرد قضاء)، وكثير من الناس ينذر لله عز وجل، أو يعاهد الله عز وجل على فعل الطاعات؛ ليحمل نفسه على فعلها، فكأنه يريد إرغام نفسه على أن تفعل، وقد نهى الله عز وجل عن مثل هذا في قوله: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة) يعني عليكم طاعة معروفة، أي أن تطيعوا الله سبحانه وتعالى بنفوس مطمئنة غير مضطرة إلى فعل ما أمرت به، ثم إن عاقبة النذر أحيانا تكون وخيمة إذا نذر الإنسان شيئا لله في مقابلة نعمة، ثم حصلت تلك النعمة، فلم يف بما عاهد الله عليه، فإن العاقبة وخيمة جدا، كما قال الله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) وما أكثر الناذرين الذين ينذرون أشياء في مقابلة نعمة من الله، أو اندفاع نقمة ثم يندمون، وربما لا يوفون. تجد الإنسان إذا أيس من شفاء المرض قال: لله علي نذر إن شفاني الله من هذا المرض أو شفى أبي وأمي أن أفعل كذا وكذا من العبادات. بعضهم يقول: أن أصوم شهرين، بعضهم يقول: أن أصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وبعضهم يقول: أن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، بعضهم يقول: أن أصوم سنة كاملة، وما أشبه ذلك، ثم إذا حصل ما نذر عليه ندموا، وقاموا يطرقون باب كل عالم لعلهم يجدون الخلاص؛ لهذا ننصح إخواننا المسلمين عموما، وهذا السائل خصوصا ألا ينذروا شيئا لله عز وجل. ونقول: أطيعوا الله تعالى بلا نذر، اشكروا الله تعالى على نعمه بلا نذر، اشكروا الله على اندفاع النقم بلا نذر. اهـ. من فتاوى نور على الدرب.
والله أعلم.