الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حرمة المال الحرام لكسبه على حائزه لا على الفقير

السؤال

هناك مسألة تشغلني، وأتعرض لها كثيرًا -أنا والكثير ممن أعرفهم-، وهي متعلقة بحكم التعامل بالمال الحرام -سواء ميراثه، أم قبوله هدية، أو هبة، أم قبضه في معاوضة، أم اقتراضه قرضًا حسنًا، وغيرها من المعاملات التي لا مناص من الوقوع في بعضها-، وقد بحثت في حدود سعتي، وأنا في بحثي هذا كنت أبغي هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يؤكده الدليل الصحيح، بلا احتمالات في فهمه تسقط الاستدلال به، أو ضعف في إسناده، ووقفت على تقسيم العلماء للمال الحرام إلى قسمين: الحرام لعينه، أو لذاته، وصورته المال المسروق، وهذا محل اتفاق -بحسب فهمي- بين العلماء، أن حرمته لا تنتقل للحل بالمناولة من يد ليد، حتى ولو كانت المناولة مباحة في الأصل –كالميراث، أو الهدية، أو الهبة، أو المعاوضة، أو القرض الحسن-، والإشكالية عندي في المال المحرم لكسبه، لا لعينه أو ذاته -أقصد هنا تحديدًا المال الحرام كله، وليس المختلط-، وسبب الإشكالية أنني أجد الجمهور يلحقون حكم هذا المال بالمال المحرم لعينه، أو ذاته، فلا يتغير حكمه بالمناولة، ولم أقف على دليل يشفي صدري مع الجمهور، وذلك -بلا شك- لقصور بحثي، وفي المقابل وجدت علماء عندنا بمصر مشهودًا لهم بالعلم والورع يفتون بتغير حكم المال بالمناولة، مثل الشيخ ابي إسحاق الحويني الذي أجاز الأكل عند موظف البنك -أي كل ماله حرام، وليس مختلطًا-، والشيخ مصطفى العدوي الذي أجاز في فتوى قبول هبة الوالد الذي يعمل في الموسيقى، والذي -بلا شك- كل ماله حرام حرمة كسب، وليس مختلطًا، وكذا الأكل عند تاجر الدخان، مستدلًا بمذهب لابن مسعود مروي عن النخعي في تلك المسألة، وكذا وقفت على فتوى للشيخ ابن عثيمين أجاز فيها الفوائد البنكية الربوية إذا انتقلت للورثة، وتلك الفتوى معتمدة، ويفتى بها على موقع موثوق به كموقعكم وهو موقع "الإسلام سؤال وجواب "، والدليل الذي شفى صدري، وجعلني أميل لفتوى تغير حكم المال بالمناولة هو الحديث الذي ساقه المفتون بالجواز، وهو حديث بريرة في البخاري، وفيه انتقال حرمة صدقة اللحم بالمناولة للحل في صورة هدية، وليس الحديث وحده هو ما حملني على الأخذ بتلك الفتوى، فالذي حملني أيضًا هو خوفي من أن أكون متنطعًا، وأنا أدعي ورعًا فيما لم يتورع عنه سيد الورعين صلى الله عليه وسلم، وبين الوقت والآخر أتذكر موقف الجمهور من تلك المسألة، فأخشى على نفسي؛ وذلك لجلالة علماء الجمهور في نفسي، وفي نفس الوقت لا أجد دليلًا بحسب بحثي القاصر، فما هو دليل مذهب الجمهور؟ وهل تلك المسألة الخلافية مما يؤاخذ عليه يوم القيامة، لاسيما وأنا مخالف فيها للجمهور؟ جزاكم الله خيرًا.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فجزاك الله خيرًا على تحريك للحلال، وخشيتك من الحرام، فهذا من الورع المحمود.

وأما ما سألت عنه فنجيب عنه من خلال النقاط التالية:

أولًا: حديث بريرة ليس في مال حرام، وإنما تصدق عليها بلحم، فأهدته لبيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويستدل به لقاعدة أصولية، وهي أن "اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأعيان حكمًا"، ومن ألفاظها أيضًا قولهم: "تبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات"، وقولهم: "تبدل الملك كتبدل العين"، وقولهم: "اختلاف الأسباب بمنزلة اختلاف الأعيان"، وقولهم: "اختلاف الملكين كاختلاف العينين".

ومعنى القاعدة أنه: متى ما تغير السبب المقتضي لحكم ما في ذات معينة، كان ذلك بمثابة اختلاف العين، ووجود عين أخرى، أو شيء آخر قد يختلف حكمه عن حكمه المبني على السبب الأول، وإن كانت الذات المعينة لم تتغير حقيقة؛ لأن تبدل سبب الملك قائم مقام تبدل الذات، وعامل عمله حكمًا، وإن لم يتبدل هو حقيقة، جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: يفهم منها: أنه إذا تبدل سبب تملك شيء ما، وإن لم يتبدل هو حقيقة، يعد متبدلًا.

وهنا في الحديث ملكت بريرة اللحم بصدقة، ولما خرج عن ملكها بسبب آخر، وهو الهدية، صار بمثابة تحول العين، وكأنه لحم آخر، قال ابن حجر في فتح الباري: تلك الهدية بعينها خرجت عن كونها صدقة بتصرف المتصدق عليه فيها.

ومن الأدلة أيضًا على القاعدة ما جاء في صحيح مسلم أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، قال: فقال: وجب أجرك، وردها عليك الميراث.

وقد جاء في المجموع للنووي نقلًا عن الغزالي: وإذا دفعه -المال الحرام- إلى الفقير، لا يكون حرامًا على الفقير؛ بل يكون حلالًا طيبًا. قال: وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع، ذكره آخرون من الأصحاب, وهو كما قالوه, نقله الغزالي أيضًا عن معاوية بن أبي سفيان، وغيره من السلف, عن أحمد بن حنبل، والحارث المحاسبي، وغيرهما من أهل الورع.

فالمال الحرام لكسبه إنما يحرم على حائزه الانتفاع به، وأما الفقير، فلا يحرم عليه؛ لأنه لم يحزه بسبب محرم، فكان كما لو أن أعيانه تبدلت، وصارت أعيانًا أخرى.

ثانيًا: أن القول بالتفريق بين المحرم لذاته والمحرم لكسبه قول وجيه معتبر، وقد ذهب إليه كثير من أهل العلم والورع، ولا حرج على المرء في الأخذ به تقليدًا لمن قال به، وقد علل ابن القيم -رحمه الله- لسبب عدم رد المحرم لكسبه إلى من أخذ منه، وأنه لا يستحقه، فقال: إن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، فهذا لا يجب رد العوض على الدافع؛ لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسيرًا لأصحاب المعاصي، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذه منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة بالصدقة.

والشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- لما أفتى بهذا القول استدل له، قال: وأما الخبيث لكسبه: فمثل المأخوذ عن طريق الغش، أو عن طريق الربا، أو عن طريق الكذب، وما أشبه ذلك؛ وهذا محرم على مكتسِبه، وليس محرمًا على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح؛ ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود، مع أنهم كانوا يأكلون السحت، ويأخذون الربا، فدلّ ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب. اهـ.

ثالثًا: حكم الأخذ بقول بعض العلماء إذا كان بخلاف قول الجمهور بيناه في الفتوى رقم: 200800.

ونعتذر عن بقية أسئلتك، فالمنهج ألا نجيب عن أكثر من سؤال في المسألة الواحدة؛ لتراكم الأسئلة لدينا.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني