السؤال
يعلم الله كم أحبكم فيه.
قرأت نصا لابن تيمية، في الرسالة الكيلانية، وهو الآتي: (وإذا كان كذلك، فمن تكلم بكلام آخر مؤلف من حروف الهجاء، فلم ينطق بنفس الحروف التي في لفظ القرآن، وإنما نطق بمثلها، وذلك الذي نطق به قد يكون هو أخذه، وإذا ابتدأ من لفظ كلام الله تعالى، وقد لا يكون حقيقة).
ما فهمته من النص بخصوص عبارة: (قد يكون هو أخذه، وإذا ابتدأ من لفظ كلام الله تعالى) أن المقصود بقوله هذا: أي استفاده من لفظ كلام الله، وليس أخذه هنا، بمعنى أن حروف كلام الله بذاتها، قد أخذها المتكلم، وقامت به؛ لأن حروف كلام الله تخصه، لا تقوم بغيره أبدا، وأن حروف المخلوق تخصه، وهي مخلوقة. وذلك فهمته من باقي نصوص ابن تيمية، في رسالته الكيلانية.
فهل فهمي هذا سديد، صحيح؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالمعنى الذي ذكر السائل أنه فهمه -وهو أن حروف كلام الله بذاتها، لم يأخذها المتكلم، ولم تقم به .. الخ -: صحيح في ذاته. ومع ذلك فعبارة: (قد يكون هو أخذه، وإذا ابتدأ من لفظ كلام الله تعالى، وقد لا يكون حقيقة) تحتمل أن في بعض ألفاظها نوعا من السقط أو النقص أو التصحيف، وقد رجعنا إلى أكثر من مطبوعة لفتاوى شيخ الإسلام، فلم نجد بينها خلافا إلا في إثبات واو العطف قبل قوله: (إذا ابتدأ) فبعضها يثبتها كما في نسخة دار الوفاء، وبعضها لا يثبتها كما في نسخة مجمع الملك فهد. وكذلك الحال في نسخة الكيلانية التي نال بدراستها وتحقيقها الباحث/ عبد العزيز القرني، درجة الماجستير، لم يثبت في هذه العبارة شيئا من الخلاف بين النسخ، إلا في إثبات هذا الحرف بعينه.
وعلى أية حال، فقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية في سياق كلامه على أن المنتسبين إلى السنة تكلموا في حروف المعجم، في غير القرآن والكتب الإلهية، فقالت طوائف: إنها مخلوقة. وقالوا: الحروف حرفان.
وقال طوائف: الحرف حرف واحد، وحروف المعجم غير مخلوقة، حيث تصرفت؛ لأنها من كلام الله، وحقيقة الحرف واحدة لا تختلف.
ثم ذكر ما احتج به كل طائفة، وحرر الخلاف بينهما، وكان مما قال: وهذه المسألة فيها تجاذب، والنزاع فيها بين أصحابنا وسائر أهل السنة يعود إلى نزاع لفظي فيما يتحقق فيه النزاع، وليس بينهم والحمد لله خلاف محقق معنوي. وذلك أن الذي قال: الحرف حرف واحد، وإن حروف المعجم ليست مخلوقة؛ إنما مقصوده بذلك أنها داخلة في كلام الله، وأنها منتزعة من كلام الله، وأنها مادة لفظ كلام الله، وذلك غير مخلوق، وهذا لا نزاع فيه. فأما حرف مجرد، فلا يوجد لا في القرآن، ولا في غيره، ولا ينطق بالحرف إلا في ضمن ما يأتلف من الأسماء والأفعال، وحروف المعاني، وأما الحروف التي ينطق بها مفردة مثل: ألف، لام، ميم ونحو ذلك، فهذه في الحقيقة أسماء الحروف، وإنما سميت حروفا باسم مسماها، كما يسمى ضرب فعل ماض، باعتبار مسماه ... وإذا كان كذلك، فمن تكلم بكلام آخر مؤلف من حروف الهجاء، فلم ينطق بنفس الحروف التي في لفظ القرآن، وإنما نطق بمثلها، وذلك الذي نطق به قد يكون هو أخذه، وإذا ابتدأ من لفظ كلام الله تعالى، وقد لا يكون حقيقة. اهـ.
فهذه العبارة المسؤول عنها، ذكرها في معرض بيان وجه القول بأن الحروف ليست مخلوقة. ولذلك قال بعدها: قيل [يعني بذلك جواب أصحاب القول الآخر]: الحرف من حيث هو هو، شيء واحد، له الحقيقة المطلقة التي لا تأليف فيها: لا توجد لا في كلام الله تعالى، ولا في كلام عباده، وإنما الموجود الحرف الذي هو جزء من اللفظ، أو اسمه إذا لم يوجد إلا حرف ... الخ. اهـ.
وذكر وجه القول بأن حروف كلام الناس مخلوقة، بخلاف حروف كلام الله تعالى، فالحرف حرفان في الأعيان، وإن كان واحدا في النوع، وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى رقم: 238036.
والله أعلم.