الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دفع الرشوة للقاضي للمطالبة بالحق

السؤال

قمت بعمل معين لإحدى الإدارات مقابل مبلغ، ولم أوقّع معهم على أي اتفاقية، وعندما انتهيت من العمل، طالبتهم بأتعابي، فأخبروني أنهم لا يستطيعون دفع المال؛ لأن المراقب المالي لا يدفع المال في غياب الاتفاقية، وطلبوا مني الذهاب للقضاء للمطالبة بحقي، وذهبت للقضاء، ولم ينكروا أنني قمت بأعمال لصالحهم، لكن القاضي رفض القضية؛ لعدم وجود الاتفاقية، فهل يجوز أن أدفع مبلغًا ماليًّا للقاضي من أجل القضاء لي بحقي المالي؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا ريب في حرمة أخذ القاضي للرشوة، وإن حكم بالحق، وكذلك الدافع لا يحل دفع الرشوة للقاضي، إن فعل ذلك بغير حق.

وأما إن كان بحق، فهو محل نظر، فمن أهل العلم من نصّ على حرمة ذلك، ولو كان الدافع سيُقضى له بالحق، والعدل؛ تمييزًا لمحل القضاء، وتنزيهًا له عن الرشوة، والسحت، وما يترتب عليها من فتح أبواب الفساد، قال الجصّاص عند قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42] من أحكام القرآن: اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم، واتفقوا على أنه من السحت الذي حرّمه الله تعالى. والرشوة تنقسم إلى وجوه:

منها: الرشوة في الحكم، وذلك محرم على الراشي والمرتشي جميعًا، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي، والمرتشي، والرائش"، وهو الذي يمشى بينهما.

فلذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه، أو بما ليس بحق له:

فإن رشاه ليقضي له بحقه، فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فرض عليه، واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه، وليس بحاكم، ولا ينفذ حكمه؛ لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة ... ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام، وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه ...

وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل، فقد فسق الحاكم من وجهين: أحدهما: أخذ الرشوة. والآخر: الحكم بغير حق. وكذلك الراشي ...

وأما الرشوة في غير الحكم، فهو ما ذكره ابن مسعود، ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان؛ وذلك منهي عنه أيضًا؛ لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}..

ووجه آخر من الرشوة، وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرمة على آخذها، غير محظورة على معطيها، وروي عن جابر بن زيد، والشعبي، قالا: لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه، وماله، إذا خاف الظلم ... فهذا الذي رخص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه، بما يدفعه إلى من يريد ظلمه، أو انتهاك عرضه. اهـ.

وقال علي حيدر في شرح مجلة الأحكام: الرشوة تقسم إلى أربعة أقسام:

1 - الرشوة المحرمة على الآخذ والمعطي، كالرشوة التي تعطى للقاضي ليحكم له. ويأثم المعطي في إعطاء الرشوة على ذلك الوجه، ولو كان محقًّا في دعواه، ويأثم القاضي إذا حكم لذلك الرجل بناء على الرشوة التي أخذها، ولو كان الراشي محقًّا في دعواه، ويكون ملعونًا... اهـ. وكذلك قال الصدر الشهيد في شرح أدب القاضي للخصاف.

ومن أهل العلم من يُسوّي بين القاضي وغيره من أهل الولايات، فيجيز دفع الرشوة لمن ظلم، أو حيل بينه وبين حقه، ولم يجد سبيلًا لذلك إلا بدفع الرشوة، فقد ذكر السَّنَامي في نصاب الاحتساب، نحو ما سبق نقله من مذهب الحنفية، ولكنه قال: وأما الإعطاء: فإن كان لجَور، لا يجوز، وإن كان لحق، جاز. اهـ. ونقله عنه إسماعيل حقي في روح البيان، والتَّهَانَوي في كشاف اصطلاحات الفنون، ولفظه: أمّا الإعطاء: فإن كان لجَور، لا يجوز، وإن كان لحقّ، أي: لدفع الظلم عن نفسه، أو عن ماله، جاز. اهـ. وراجع الفتوى: 307339.

والذي يظهر لنا أنه ينبغي التمييز بين مراتب الحقوق، ومراعاة حال المرء وحاجته:

فإن لم يمكن لصاحب الحق أن يستخلص حقه إلا بدفع الرشوة للقاضي، وكان محتاجًا لهذا الحق حاجة معتبرة، بحيث يتضرر بمنعه ضررًا جاءت الشريعة برفع مثله، فهذا يمكنه الترخص بدفع الرشوة لنيل حقه.

وأما إن كانت حاجته يسيرة، ولا يتضرر تضررًا معتبرًا بعدمها، فليكف عن ذلك، وليحتسب الأجر في تركه.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني