الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحكمة من التوجه إلى البيت المقدس أولًا ثم التحويل إلى الكعبة

السؤال

في بعض كتب التفسير والمواقع، وكذلك فتاوى بعض أكابر مشايخنا، يدعون أن توجه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قبلة بيت المقدس في بداية الهجرة للمدينة، كان بأمر إلهي، بغرض تأليف قلوب اليهود، أليس ذلك معارضا لنص الآية الكريمة، يقول الله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم.
حيث ذكر أن السبب هو سبب واحد فقط، وهو بيان من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
فكيف يدعي شخص آخر سببا آخر، رغم أن الآية فيها سبب واحد باستثناء مفرغ، لأعم الأحوال.
ألا يعارض هذا القول صريح القرآن؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فالعلة المذكورة في قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ {البقرة:143}، إنما هي لحكم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

وأما ما ذكره بعض أهل العلم من تأليف قلوب اليهود، فإنما كان لبيان الحكمة من التوجه الأول إلى بيت المقدس. فهما أمران مختلفان، فالتوجه إلى البيت المقدس أولًا له حكمته، والتحويل إلى الكعبة بعد ذلك له حكمته.

قال الطبري في تفسير قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة: 143].

قال: أي ومَا جعلنا صَرْفك عن القبلة التي كنت عليها، وتحويلك إلى غيرها، كما قال جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ). بمعنى: وما جعلنا خَبرَك عن الرؤيا التي أريناك. وذلك أنه لو لم يكن أخبَر القوم بما كان أُرِي، لم يكن فيه على أحد فتنة، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس، لو لم يكن صرفٌ عنها إلى الكعبة، لم يكن فيها على أحد فتنة ولا محنة. اهـ.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: ولعل الآية -يعني قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. تشير إلى أن استقبال النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود؛ لقطع معذرة اليهود كما سيأتي في قوله تعالى: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [البقرة: 143].

فأعلم رسوله بقوله: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى، بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم، فتكون إيماء إلى تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس. اهـ.
وهنا نشير إلى خلاف أهل العلم في التوجه الأول إلى بيت المقدس، هل كان بوحي وأمر من الله، أم كان باختيار النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده؟

وعلى الاحتمال الثاني ذكر بعض أهل العلم أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان تألف اليهود ليؤمنوا به ويتبعوه.

قال الطبري في تفسيره: اختلف أهلُ العلم في ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة. فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وأسند تحت هذا القول أثرا عن عكرمة والحسن البصري، وفيه: فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعةَ عشر شهرًا، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعو بذلك الأميين من العرب.
وعن أبي العالية قال: إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس؛ لكي يتألَّف أهلَ الكتاب. اهـ.
قال: وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بفرض الله عز ذكره عليهم. اهـ.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني