السؤال
ظهر في هذه الأيام رجل من بيت المقدس، يسمى صلاح أبو عرفة، يدعو إلى الرجوع إلى حقيق الكتاب والسنة، وما أثر عن الصحابة -رضي الله عنهم- ويرى عدم جواز التأليف ونشر العلم، وأن العلم موجود في الكتاب والسنة، وأن من أراد الحق يسر الله له الفهم، وكل الكتب الموجودة غير القرآن وكتب السنة من عهد التابعين إلى اليوم لا يجيز النظر فيها، وأنها من المحدثات، ومن الرأي؛ مثل كتب التفسير والفقه والعقائد وغيرها، ويستدل بحديث عبدالله بن عمر أنه عد من أشراط الساعة أن تكتتب المثناة، وهي ما استكتب من كتاب غير كتاب الله، ويتكلم في ابن تيمية وابن القيم والألباني وعلماء الحجاز عامة، والنجدي خاصة، وأنهم غيروا وبدلوا وابتدعوا، وأن لفظة (عقيدة وصفة ومعجزة) بدعة، وأنه مثل يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب.
أفتونا بارك الله فيكم رابط القناة ( ..............https://www )
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحديث ابن عمرو قد ورد موقوفا، وروي مرفوعا أيضا، ولفظه: من اقتراب (وفي رواية: أشراط) الساعة أن ترفع الأشرار، وتوضع الأخيار، ويفتح القول، ويخزن العمل، ويقرأ بالقوم المثناة، ليس فيهم أحد ينكرها. قيل: وما المثناة؟ قال: ما استكتب سوى كتاب الله عز وجل.
وتجد تخريجه مفصلا في سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ الألباني.
ولو صح مسلك هذا الشخص في التعامل مع هذا الحديث، لما اقتصر على إهدار التراث العلمي الضخم من عهد التابعين، بل سيلغي أيضا آثار الصحابة، بل سيلغي السنة النبوية ذاتها! ويبقى فقط نص القرآن! لأن لفظ الحديث: ما استكتب سوى كتاب الله.
ولذلك نبه أهل العلم على أن ابن عمرو - رضي الله عنهما – لم يرد بذلك النهي عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإلا فهو من المكثرين من الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنما أراد النهي أو التنبيه على كراهية الأخذ عن أهل الكتاب.
وقد روى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب غريب الحديث، هذا الأثر عن ابن عمرو، ثم قال: سألت رجلًا من أهل العلم بالكتب الأولى - قد عرفها وقرأها - عن المثناة، فقال: إن الأحبار والرهبان من بني إسرائيل بعد موسى وضعوا كتابًا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله فسموه المثناة.
كأنه يعني أنهم أحلوا فيه ما شاءوا، وحرموا فيه ما شاءوا، على خلاف كتاب الله تبارك وتعالى، فبهذا عرفت تأويل حديث عبد الله بن عمرو، أنه إنما كره الأخذ عن أهل الكتب لذلك المعنى. وقد كانت عنده كتب وقعت إليه يوم اليرموك، فأظنه قال هذا لمعرفته بما فيها، ولم يرد النهي عن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته، وكيف ينهى عن ذلك وهو من أكثر أصحابه حديثًا عنه. اهـ.
ونقل ذلك عن أبي عبيد المصنفون في غريب الحديث، كالهروي، وابن الجوزي، وابن الأثير. وذكره الزمخشري في الفائق دون عزوه لأبي عبيد.
وقال ابن الأثير بعد نقل كلام أبي عبيد: وقال الجوهري: المثناة هي التي تسمى بالفارسية دو بيتى، وهو الغناء. اهـ.
وما نقله أبو عبيد عن أحد أهل العلم بالكتب الأولى، هو الموافق للمعروف عن التلمود الذي يعظمه اليهود، ويرجعون إليه دون التوراة، وقد وضعه لهم حاخاماتهم، وزعموا أنهم تلقوه شفهيا جيلا عن جيل، إلى نبي الله موسى عليه السلام! ومتن التلمود هو المعروف بالمشناة، وذلك أن التلمود يتكون من جزئين:
ـ متن، ويسمى المشناة: بمعنى المعرفة أو الشريعة المكررة.
ـ وشرح، ويسمى جمارا: ومعناه الإكمال.
كما جاء في الدراسات الخاصة باليهود واليهودية، ككتاب (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية) للمسيري، وكتاب(التلمود تاريخه وتعاليمه) لظفر الإسلام خان، وكتاب (دراسات في الأديان) لسعود الخلف.
والمقصود أن الكتب التي يُنهى عنها إنما هي الكتب التي يُعارَض بها كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتقدم عليهما، ويرجع لها دونهما. وأما الكتب التي تعتمد على القرآن والسنة، وتشرحهما وتقرب فهمهما لعموم المسلمين، وتعظم شأنهما وتعلي قدرهما، بحيث لا يُقدَّم عليهما شيء، ولا يُرجع دونهما إلى شيء، فهذه كتب نافعة، ولا يُستغنى عنها في فهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ثم إنه لا يخفى أن اعتماد كل شخص على فهمه هو للكتاب والسنة، دون التفات إلى العلماء، وكتب العلم من زمن التابعين إلى يومنا هذا: أنه باب ضلالة ومزلة عظيمة، ولاسيما مع اختلاف العصر والبيئة، وضعف اللغة، وتباعد الزمان، وظهور الجهل، والابتداع في الدين. فلا يستقيم فهم علوم الشرع في كل مسائلها إلا من خلال التعلم والتلقي من أهل العلم الثقات الذين أخذوه عمن قبلهم، حتى يبلغوا بهذا التسلسل المبارك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، وراجع في ذلك الفتويين: 135397، 355837.
وعلى أية حال فقد تناول بعض العلماء وطلبة العلم آراء هذا المسؤول عنه بالنقد العلمي، وبيان ما فيها من الزيغ والمغالطة والآراء المنكرة.
والله أعلم.